مقولة رائعة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
(استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره ) …
هو اختيارك … لك أن تختار.. أن تكون مأسوراً .. أو نِدّاً عزيزاً .. أو أميراً..
لايخفى على ذي نهى احتياج البشر للبشر فالفطرة البشرية تملي علينا بدافع الانتساب للجماعة أن نعيش نحن قاطنو الكرة الأرضية الستة مليارات وكل منا يحتاج الآخر في زاوية ما ، إن لم يكن الاحتياج مباشراً قد يأخذ الشكل اللا مباشر
فبعضنا ينتج وآخرون يستهلكون وذات المستهلكين ينتجون شيئاً آخر وغيرهم يلعب دور المستفيد وهكذا ، الإنسان كائن اجتماعي والأرض لاتعمر ولاتبقى إلا بوجود الجماعات والأمم والتكتلات ، ومهما كان الإنسان مستقلاً أو متمرداً على قيد الجماعة أو منفصلاً عن المجتمع تظل هناك خيوط خفية تجذب بعضاً أو كلاً ينتمي إليه بشكل أو بآخر ، فالانفصال التام عبث والاستقلال الكامل حلم بعيد المنال .
كيف إذن نصل إلى تحقيق المعادلة الصعبة وحلها التي سطرها خليفة رسول الله والتي تقرر بأن الاحتياج لأحدهم ماهو إلا أسرٌ يسجنك بين جدرانه ويسلبك ترخيص حريتك واستقلاليتك!! ليس المقصود من هذه العبارة الفريدة ذات الستة كلمات أن تقطع حبل الاحتياج من كل البشر بل المقصود أن تعرف كيف تنتقي من تحتاج من بين عموم البشر، وهو أمر صعبٌ يكاد يصل إلى درجة المستحيل أحياناً خاصة فيما نحتاج ولا نجد من يوفره سوى عنصر بعينه فالتنصل من هذا الاحتياج قد يكلفك خسائر مادية أو معنوية تؤدي إلى أسرٍ أشد وجرفٍ أعمق من هاوية أسر الاحتياج.
لذا الفيصل هنا هو الحكمة والفطنة اللتان تحددان مدى الحاجة لأحدهم وهل لهذا الأحد من بدائل ، وقد يشمل الأحد أطرافاً وعناصر عدا البشرفقد تقع في أسر الاحتياج الشديد لجماد أو مكان أو حيوان أو متعة أو ملذة أو نسق وهنا يترجم عدم القدرة على الفكاك من أسر الاحتياج بكونه إدماناً وتعلقاً غيرَ منطقي .
فالأسر هنا أسرٌ اختياري والدخول للسجن يتم والسجين ماشياً على قدميه بل راكضاً بإصرار في أحوال كثيرة والرضا يغمر هذا السجين ، سجن الاحتياج لشخص أو مكان أو عادة ما يشكل الضد لسجون الدنيا التقليدية التي يدخلها الناس مستائين بائسين أما سجن الاحتياج فقد تظهر على سجينه أعراض البؤس لاحقاً في حال ثبت سوء السجان أو ظهر السجان على حقيقة شرسة قبيحة وتحول الأسر حبلاً لمشنقة تقترب من رقبة صاحبها عقداً يوماً بعد يوم ، مثال ذلك من يسجن نفسه في حب حبيب ويكتشف غدره وخيانته فيما بعد أو مدمنو المخدرات الذين ينتشون بأسر اللذة ابتداءً ثم يتحول الأسر إلى جحيم فوهة بركان يغرقه في غياهب الحمم بعد إدمانه .
وتبرز عبقرية الخليفة الرابع رضي الله عنه في العبارة ( استغن عمن شئت تكن نظيره ) حيث تختفي خطوط الأسر والاستعباد وتحل بدلاً منها فضاءات الحرية ومظاهر الندية ، فحين تتحرر من أسر عشقك لحبيب كنت تدور في دوائر البحث عن رضاه وتموت كمداً إذا غضب وتذوب حزناً إن غاب وتفقد صحتك خوفاً من فقده ، سيتحول كل ذلك إلى لاشيء حين تفك أسرحبه من حول رقبتك ، لن تتلاشى أمامه و لن تتماهى في محيطه بل ستجابهه رأساً برأس كاشفاً عيوبه ، مختلفاً معه ، شاكياً منه إن أخطأ أو تجاوز ، راحلاً عنه إن ظلمك أو كرر إهانتك ، باختصار ستقف له نداً لا عبداً .
و قسْ على ذلك تخلص المدمن من براثن مايستعبده فحين يتعافى سيسخر من مدى ضعفه وذله أمام سجانه وأسره .
أما الشق الأخير من الحكمة الثلاثية الأبعاد فهو الأجمل ، فالإحسان ينصبك حاكماً بأمره ، والعطاء والبذل يجعلانك سيداً لمن تبذل له ، سيداً بمعنى أنك تملك قلبه وتأسره بجميل صنعك وغزيرعطائك ، فالإمارة على الوجدان لاتأتي بالأمر أو الزجر أو العنف بل بالمنح والإحسان في المنح ويشمل الإحسان الحنان والعطف وجميل التصرف وعذب الكلمات والمساعدة والتعاضد والمشاركة مادياً ومعنوياً حين الحاجة والتسامح والتغاضي حين التجاوز وإشعار من تعطيه بمكانته وأهميته لديك ، تلك الألوان والضروب للمنح والإحسان تجعلك آسراً لمن أحسنت إليه أسراً جميلاً لانصب فيه ولا وصب .
وبالطبع قد تحسن وتمنح ولا يعطيك من أحسنت إليه قدرك ولا يكبر فعلك وقد يرده لك قبحاً وظلماً ونسياناً وشراً تحقيقاً للمعنى الموصوف في شطر البيت ( وإن أنت أكرمت اللئيم تمردَ ) ، لابأس ، هي الدنيا وفيها المحسنون وفيها العابثون ومنهم من تملكه بوردة ومنهم من يلفظك وقد منحته جلّ عمرك ومالك ، الخطأ هنا ليس في حكمة الخليفة علي بل العيب هنا في سوء بعض بني البشريردون الجميل بالقبيح وهذا حال الناس وتباين معادنهم .
وهج :
إن أردت أسري .. أَحسِن .. وأَجزِلْ
فإذا ما أسرْتَ .. ارحم .. تمَهلْ
وقد أحتاجكَ .. فارفِقْ .. تَجَمّلْ