١ ـ معبر :
كي تعبر إلى عالم عبد الله بيلا الشعري تحتاج إلى مثل هذا العنوان أعلاه لتطرق به بوابة الشعر . تحتاج إلى قافلة البدء عبر تآويله الترابية و صباحاته المرممة بالنجوم ، كما تحتاج إلى قافية المنتهى التي تضع لك شرطا موسيقيا في نهاية الطريق . شرطا تتعرف من خلاله على إيقاعات عبد الله التي لا تجتلب الصوت من خارج النص و لا تدفعه بقوّة من داخله إلى الخارج .
و هاتان السمتان في فضاء بيلا الشعري يختزلان تجربته في رؤية فلسفية عبر العنصر الترابي الأول ، و صوتا إيقاعيا عبر فضاء النص التفعيلي الهادىء في توقيعاته الموسيقية . بين هذين المحورين أحاول في هذه القراءة عبور فضاءات بيلا من خلال تآويل التراب و صباح النجوم ، و من خلال المبتدأ و المنتهى اللذين يتحرّك فيهما هذا الشاعر المتأمّل في الكائنات :
” لم أزل شاردا
خارج الكائنات
أمد يدي للسديم كطفل
أزاول مبتدئي .. منتهاي”
فعبر هذه الشذرة الشعرية يمكن أن نرصد ملامح تجربة شعرية مكثّفة تحاول أن تتلمّس البدايات و النهايات تأويلا و تشكيلا .
٢ ـ قافلة البدء :
يرتكز الشاعر في تجربته على فضائي المكان و الزمان لا باعتبارهما إطارين ، بل باعتبارهما مادتي تأويل فلسفي لرؤيته الشعرية ، فالتأويل مفهوم ذهني تتم نسبته إلى “التراب” أحد العناصر الأولى في التكوين ، و هو باعتبار الفلسفة القديمة عنصر تكوين رباعي ينضاف إلى (الهواء – الماء – النار ) ، لهذا يتجه إليه الشاعر متسائلا :
” و لي أن أسائل هذا التراب
أناقشه عن خطاي”
اختار الشاعر التراب وصفا لتآويله تفاعلا مع الواقع من جهة و ارتدادا إلى أصل التكوين من جهة أخرى ، و على هذا جاء الديوان الشعري معجما و توظيفا دلاليا و استلهاما شعريا ليعكس ما أشرت إليه في عنوان هذه القراءة بقافلة البدء .
يعود بيلا إلى قصة الإنسان الأول ، بمشاهدها و رموزها و صراعها ، فيستدعيها معادلا بها الواقع المعاصر ، و لهذا نلحظ في أكثر نصوصه التعبير بمشاهد الكون الأولى و استدعاء رموز بدء الخليقة لإسقاطها تأويليا على أحداث الصراع في عالمنا المعاصر و على ما يعيشه الإنسان من غربة أخلاقية داخل هذا الرماد الكثيف :
“تناسل أحفاد قابيل تحت رماد الرؤى” ، و من هنا تحضر عناصر البدء في محاولة من الشاعر لاستعادة اللحظات الأولى قبل أن تتكدّس الرؤى و قبل أن يفقد الإنسان انتماءه للتراب :
” خذ العفو من جسد الأرض
و أمر بعرف البداءات ” .
و هكذا يحيلنا هذا المقطع الشعري من خلال التناص إلى الآية الكريمة “خذ العفو و أمر بالعرف” ، في إشارة منه إلى مبدأ التسامح بالعودة إلى سحر البدايات و طهارتها ، تلك الطهارة التي يمكن أن تستعاد بالضحك ، على أو من ، في سياق التجاهل و تجاوز كل هذا الصراع المركوم :
” سأضحك
حتى يؤوب الزمان
صبيا
لأيامه الطاهرة”
و نلحظ أن الشاعر إذ يستدعي أطوار البدايات فإنما ليشير إلى الصيرورة التي ستؤول في النهاية إلى مقعد أخير يمكن من خلاله أن ندلف إلى المستوى الإيقاعي في تجربة الشاعر :
” كل أطوار تلك البدايات
تبحث عن مقعد في الممر الأخير”.
إن الشاعر هنا يتقاطع من خلال رؤيته للوجود و صيرورته مع بنائه النصي التفعيلي الذي تؤول فيه أطوار القصيدة إلى قافية المنتهى .
و يبدو لي تعزيزا لما مرّ أن الشاعر في رؤيته الشعرية مهموم بالبدايات و النهايات معًا ، فتكاد لا تقرأ نصا من نصوصه إلا و تراك في مرآة البدايات أو في مرآة النهايات ، و هما مرآتان يعكسان رؤية التآويل الترابية فلسفيا عبر العناصر الأولى ، و الصباح المرمم بالنجوم ، و يكفي فقط هذا العنوان لنلمح من خلاله البدء المرمم بالختام .
٣ ـ قافية المنتهى :
في هذا الجزء تتجلى طبيعة الإيقاع الموسيقي في تجربة بيلا و هي طبيعة لا تتوسل بالإيقاع الصاخب عبر تكثيف القوافي ، و إنما تتجه عبر انسياب هادىء إلى قافية المنتهى التي تمثّل مركز أو مصبّ الإيقاع إذ تستقر كل موسيقى النص في لحظة النهاية في قافية وحيدة ، نجد هذا في كثير من نصوصه ، دون أن يعني ذلك غياب القافية في نمطها التقليدي المتلاحق ، غير أنّ حديثنا هنا يتجه إلى قافية المقطع المفردة التي غالبا ما يختم بها بيلا نصوصه التفعيلية ذات الإيقاع الهادىء تأكيدا على الطبيعة التأملية لهذه النصوص و فضائها الإيقاعي الخافت ، يقول في أحد نصوصه التي تمثّل هذا النموذج الإيقاعي :
“خُذ من الماءِ
ما سوف يكفي لِرَيِّ الزُهورْ
خذ من النارِ
ما سوف يُشعِلُ هذا الفُتُورْ
خُذ من الوقتِ
ما سوف يكفي
لكي نلتقي صُدفةَ
دونَ أنْ يضربَ الدهرُ ما بيننا موعِدا
وخُذ مِن بقايا القصائِدِ أفراحَها الموسميّةَ
أغلِقْ على بابك الخشبيِّ الرِتاجْ
ريثما..
تهدأُ العاصفة !”
ففي النص هنا يحضر الإيقاع بمستويين ، المستوى المتلاحق من خلال قافيتي “الزهور- الفتور”، و المستوى الخافت الذي يتغافل عن القافية حتى يصل إلى لحظة النهاية “ريثما تهدأ العاصفة” ، و على هذا النسق كتب بيلا عددا من نصوصه ، منها على سبيل المثال :
“سلامٌ على الكلماتِ التي
راقبتني طويلاً ولكنها لم تبُحْ
سلامٌ على النظراتِ التي
صافحت مقلتي دون أن أنتبه
سلامٌ على البسَماتِ التي
رطّبت مهجتي
ونمَتْ في طريقي
والسلامُ
على الساعة الخامسة.”
إن قافية المنتهى في المستوى الصوتي لنصوص بيلا لا تخطئها الأذن و لا العين الناقدة ، فهي تمثّل ظاهرة أسلوبية و ثيمة دلالية في التجربة و هذا يتطلّب ربطها بالرؤية كاملة ، و في نظري أن الرابط يكمن فيما أشرت إليه حول هاجس البدء و الختام ، و تعكس عنوانا المجموعتين اللتين صدرتا للشاعر هذا الهاجس من خلال التراب بوصفه عنصرا ماديا يشير إلى البدء و الصباح بوصفه مفهوما تجريديّا كذلك ، أما النهايات فتحضر في التآويل في جزء العنوان الأول و النجوم في جزء العنوان الثاني لاكتمل الدلالة منطقيا بين الحس و التجريد في البدء و الختام .
فماذا يعني تكرار القافية المفردة في المنتهى ؟
تبدو لي ذات دلالة إشارية للحظة توقّف الزمن و وصوله إلى نهاية مشتركة ، و هي دلالة تنسجم مع إيقاعية الزمن في صيرورته و وصوله إلى خط النهاية :
“كل أطوار تلك البدايات
تبحث عن مقعد في الممر الأخير”.
كما تنسجم مع حركة النص الشعري عند بيلا في بحث كلماته عن مقعد في الممر الأخير ، بدءا من الفكرة التي تتخلّق كما يتخلّق الوجود في نظامه المطرد إلى اللحظة الأخيرة عند قافية المنتهى :
“الفكرة انبثقت من اللاشيء
توشك فكرة
تصير أبيض من سذاجة لحظة أولى
..
فكانت قبل بدء البدء مبتدأ
و كانت
منتهى سفر النهايات المؤجّلة النهاية “.
على هذا النحو تتعانق و تتعالق البداية و النهاية في تجربة الشاعر من خلال الشكل و المضمون في رؤية بادية المعالم يعززها المعجم الخاص الذي آثره الشاعر في التعبير عن موقفه من العالم و في تشييد عالمه الشعري الخاص .
٤ ـ مقعدٌ أخير :
تسير قصيدة شاعر الرؤية في معالم واضحة بصرف النظر عن غموض النص دلاليا ، للفارق بين الرؤية و الدلالة في سياق الإبداع ، فالرؤية الواضحة لا تستلزم نصا واضحا كما أن النص الغامض لا يعني غموض الرؤية ، و في ظني أن النصوص ساطعة الوضوح غالبا ما تكون بلا رؤية في حين غالبا ما تصدر النصوص الغامضة عن رؤية شديدة الوضوح !
أقول هذا في سياق قراءة التجارب الشعرية لا النصوص المفردة ، فقراءة أي تجربة شعرية تستلزم النظر في عدد من النصوص التي يجمعها فضاء دلالي مشترك أو إطار ناظم لشتاتها ، فإذا كان الشاعر شاعر تجربة تبدَت للناقد معالم الرؤية و استجابت كل قصيدة من قصائد الشاعر لهذا الإطار المشترك الذي تبرز من خلالها المعالم أو الملامح المشتركة ، أما حين يكون الشاعر شاعر قصيدة ، ففي هذه الحالة تكون حدود قصيدته مؤطرة بالحالة الشعورية فحسب ، و هنا لا معنى للحديث عن الوضوح و الغموض ، لأنه متعلّق بالتعبير لا بالرؤية ، و بناء عليه قد يصدر النص الواضح من الشاعر مع غموض الرؤية و قد يصل الأمر إلى فقدانها ، كما قد يصدر النص الغامض في إطار رؤية كلية مشتركة تفسّر هذا الغموض و تجلّيه في فضاء يجمع الخصائص المشتركة للنصوص يمكن وصفه بفضاء الرؤية .
و تبعا لذلك فحين يصدر النص غامضا بلا رؤية فهذا يعني أنّه نصٌّ أعمى لا يبصر طريقه في فضاءات الإبداع المشتركة .، و أن غموضه شكلي يحتجب باللغة المصمتة التي لا تفضي إلى عالم شعري كثيف .
في هذا السياق يسعني القول في المقعد الأخير من هذه القراءة : إن نصوص عبد الله بيلا الشعرية تنتظمها رؤية بادية المعالم لمن سبر هذه النصوص من باب المعجم الدلالي و موقف الشاعر من العالم في بدئه و منتهاه !