تظل رحلة الحج إلى مكة المكرمة والديار المقدسة هي الهاجس الأكبر لكل المسلمين في شتى بقاع الأرض، ويظل الشوق والحنين إلى الأراضي الطاهرة، هو الحلم الذي يراود كل مسلم بأن يحظى بهذه الرحلة المباركة، تصديقًا واستجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام التي وردت في كتاب الله الكريم، حيث قال تعالى في سورة ابراهيم: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )، وقال تعالى في سورة الحج: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
فالناس منذ ذلك النداء وهم يأتون من كل فج عميق قاصدين هذا البيت العتيق، تسبقهم أفئدتهم قبل أجسادهم، عن شوق ومحبة، لينعموا بهذه الرحلة الروحانية، فالمسلمون في كل مكان تتوق قلوبهم إلى رؤية بيت الله وتهيم نفوسهم شوقًا إليه، فقد جعل الله في الحج إلى بيته الحرام سرًا عجيبًا جاذبًا للقلوب، وكلما أكثروا التردد إلى المسجد الحرام ازداد شوقهم وعظم ولعهم إليه، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قال الشاعر :
أطوف به والنفس بعد مشوقة
إليه وهل بعد الطواف تداني؟!
وألثم منه الركن أطلب برد ما
بقلبي من شوق ومن هيمان
فو الله ما أزداد إلا صبابة
ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى
ويا منيتي من دون كل أمان
ولقد كان الشعراء وعلى مر العصور والأزمان، في مقدمة من ألهب الحج مشاعرهم واستثار أفئدتهم، فتغنوا في وصف هذه المكانة العالية التي تحتلها مكة المكرمة في نفوس المسلمين، وأبدعوا في الإفصاح عن شوقهم وحنينهم إلى مهوى الأفئدة، فلا تزال تشتاق النفوس إلى ربا هذه الأرض المباركة، وتهفو القلوب إلى لقياها، فهذا هو الحج وهذه هي الفريضة العظيمة المقدسة، التي ألهمت الشعراء وجعلتهم يعبرون عما يشعرون به تجاهها، فكم مِن باكٍ شوقًا وتوقًا، وكم من مشتاقٍ يتمنّى القدوم إلى مكة، ليحظى بالمبيتَ ولو ليلة بمِنى، أو الوقوف ساعةً بعرفة، أو ذكر الله في مزدلفة، أو المزاحمةَ عند الجمرات، أو الرشف من ماء زمزم أو الطواف بالبيت وسَكب العبرات، حيث تنزل الرحمات، فهذا الشوق المكنون يحدو المسلمون من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، فيتحملون عناء الأسفار ومشاق الطريق ومخاطره، وتهون عندهم كل الشدائد للظفر برحلة قدسية تقرِّبهم إلى الله، وتملأ قلوبهم طمأنينة، وتسكب في أرواحهم رياحين الرضا، إنه الشوق إلى أرض الرحمات، وأرض العطايا والهبات، حيث تُقال العثرات، وتُستَجَاب الدعوات، فحُقّ للنفوس أن تتوق، وللأرواح أن تحلّق أملاً في الوصال، حقًا إنها حالة دينية وروحية فريدة ومتميزة، تستثير نوازع النفس، وتستدر العواطف والمشاعر على أن تبوح وتشكو وتناجي..، فما أن تهل نسائم الحج حتى تهفو القلوب..وتجيش الصدور.. حنينًا إلى زيارة بيت الله العتيق..وشوقًا إلى رضوان رب العالمين… فسقَى الله تلك الرّبى والبِطاح.
ولقد أبدع الشعراء في صياغة مشاعرهم، فمنهم من كتب الله له وأكرمه ونعمه بهذه الرحلة المباركة، ومنهم من حالت الظروف بينه وبين الحضور إلى هذا الأرض الطاهرة، ومنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فجادت قرائحهم بوصف أحوالهم، إما بفرحة اللقاء، أو بالتمني والشوق والحنين والحسرة، لذلك فإن قصيدة الحج هي قصيدة البوح والمناجاة، فلنستعرض بعض أخبارهم في أحاديث ونفحات الشوق والحنين الى الرحلة الميمونة:
فها هو الشاعر العباسي السهروري المقتول يكتب معبرًا عن شوقه ومتعته الروحية في البقاع المقدسة، فيقول:
هذه الخيف وهـاتيـك مِنى
فترفَّق أيّهـا الحادي بنـا
واحبسِ الرّكبَ علينا ساعةً
نندُب الرّبعَ ونبكي الدَّمِنا
فلذا الموقِف أعدَدنا البُكـا
ولذا اليومِ الدّمـوع تُقتَنى
أما الشاعر عبد الرحيم البرعي، فقد أبدع في في وصف شوقه وولهه للديار المقدسة، حيث أعاقه المرض وهو في طريقه للحج، ولما كان على مقربة من المدينة المنورة، ازداد عليه المرض، فأنشأ قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير .. وكان مما قال فيها:
يا راحلين إلـى منـى بقيـادي
هيجتموا يوم الرحيـل فـؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي
الشوق أقلقني وصوت الحـادي
وحرمتموا جفني المنام ببعدكـم
يا ساكنين المنحنـى والـوادي
إلى أن يقول :
يارب أنت وصلتهم صلني بهـم
فبحقهـم يـا رب فُـك قيـادي
فإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا
مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي
قولوا لهم عبـد الرحيـم متيـم
ومفـارق الأحـبـاب والأولاد
صلى عليك الله يا علـم الهـدى
ما سار ركب أو ترنـم حـادي
ولابن القيم قصيدة طويلة يطلق عليها ميمية ابن القيم ويوصف فيها الموقف العظيم الذي تشهده الديار المقدسة، ومغفرة الله لمن وقف في عرفات فيقول :
أما والذي حج المحبون بيـته
ولـبُّوا له عند المهلَّ وأحرموا
دعاهم فـلـبَّوه رضاً ومحـبةً
فـلما دَعَوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنـضاد شُعثـًا رؤوسهم
وغُـبرًا وهم فـيها أسـرُّ وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهـل رغبة
ولم يُثْـنهم لذَّاتهم والتنعُّم
يـسيـرون من أقطارها وفجاجِها
رجالاً وركبانًا ولله أسلموا
وراحوا إلى التعـريف يرجونَ رحمة
ومغـفـرةً ممن يجودَ ويـكرمُ
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي
كموقـف يوم العرض بل ذاك أعظمُ
ويـدنو به الجبار جلَّ جلاله
يُباهي بهم أملاكه فهو أكرمُ
يقـولُ عبادي قـد أتوني محبةً
وإني بهم برُّ أجود وأكرمُ
فأشهـدُكم أني غـفـرتُ ذنوبهـم
وأعطيتهـم ما أمَّلوه وأنعمُ
ومن أجمل القصائد التي تغنى بها المنشدون قصيدة أنخ ركابك ، إذ جاء فيها :
أنخ ركابك يا من شئت مغفرة
بأبي قبيسً وأقصد ذلك الحرم
وتابع السير في ذل وفي وجل
وناجِ رب البيت في حجر وملتزم
وطف ببيت الله وأسأله مكرمةً
يرقيك منزلة ذو الجود والكرم
وأسع ما بين الصفا والمروة مرتملاً
وكبرِ المولى ياساعِ في الحرم
وزمزمُ لا تنس تضلع منها مرتويًا
بنيةٍ سبقت تشفي كل ذي سقم
وكتب الشاعر مهدي سويدان في إحدى قصائده معبرًا عن مشاعره الفياضة عن شعيرة الحج فقال:
طوبى لمن حج بيت الله واعتمرا
وطاف سبعًا وفي إحرامه اتزرًا
يافوز من عاد لا فسقًا ولا جدلًا
يا سعد من فمه قد قبل الحجرا
وعانق الركن بالكفين ملتزمًا
مناجيًا من يرى ما جل أو صغرًا
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد أجاد في قصيدة رائعة يسلم فيها على عرفات وعلى زوار عرفات وهي تصف ما يشعر الانسان من سعادة خلال الحج ويقول فيها:
إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ في عَرَفاتِ
وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّبٌ
بِكَعبَةِ قُصّادٍ وَرُكنِ عُفاةِ
وَما سَكَبَ الميزابُ ماءً وَإِنَّما
أَفاضَ عَلَيكَ الأَجرَ وَالرَحَماتِ
وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُنًا
مِنَ الكَوثَرِ المَعسولِ مُنفَجِراتِ
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُم
لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ
إِلَيكَ اِنتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ
لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
وهذا الشاعر طاهر زمخشري، يصف حبه وهيامه بالبيت الحرام والمشاعر المقدسة رغم أنه من أهل مكة، فيقول :
أهيم بروحي على الرابيه
وعند المطاف وفي المــروتين
وأهفو إلى ذِكَرٍ غـــــاليه
لدى البيت والخيف والأخشبين
فاهدر دمعي بآمـــــــــاقيه
ويجري لظـــاه على الوجنتين
ويصرخ شوقي بأعمــاقيه
فأرســل من مقلتي دمــــــعتين
أهيــــم وفي خاطري التائه
رؤى بلد مشرق الجـــــــانبين
يطـــــــوف خيالي بأنحائه
ليقطع فيه ولو خطــــــــوتين
أمـــــــــرغ خدي ببطحائه
وألمس منه الثرى باليــــــدين
وألقــــــــي الرحال بأفيائه
وأطبع في أرضــــــــه قبلتين
أما الشاعر فؤاد شاكر فيقول واصفا اللهفة والحنين في قصيدته الحج إلى بيت الله الحرام :
أهّلت بأفواج الحجيج المواكب
وخفت إلى البيت الحرام المناكب
تدانت بهم من كل صقعٍ محافل
وفاضت بهم من كل حدبٍ نجائب
مشاةً وركباناً على كل ضامرٍ
فمن كل فجٍ أدرك الحج طالب
ومن بدوي الجبل قصيدة “الكعبة الزهراء” وهي التي يتخيل فيها رحلته إلى الديار المقدسة فيقول:
بنور على أم القرى وبطيبة
غسلت فؤادي من أسى ولهيب
لثمت الثّرى سبعا وكحّلت مقلتي
بحسن كأسرار السماء مهيب
وأمسكت قلبي لا يطير إلى (منى)
بأعبائه من لهفة ووجيب
فيا مهجتي وادي الأمين محمد
خصيب الهدى: والزرع غير خصيب
هنا الكعبة الزّهراء والوحي والشذا
هنا النور فافني في هواه وذوبي
ويا مهجتي بين الحطيم وزمزم
تركت دموعي شافعا لذنوبي
وفي الكعبة الزهراء زيّنت لوعتي
وعطّر أبواب السماء نحيبي
ويصف الشاعر عبد العليم الصافي شوقه وحنينه عندما يرى الحجيج مستعدين للرحيل إلى الحج وهو ليس معهم، فأنشد أبياتًا قال في مطلعها :
خلفوني مع الدموع وراحوا
ليتهم من وداعهم قد أراحوا
فجروا في الفؤاد نبع حنين
يا بروحي حنينه الوضاح
أما الشاعر محمد عايش عبيد، فقد هفا قلبه إلى الحج فأنشأ يقول:
قلبي إلى البيت العتيق يحن شوقاً كي يراه
تأتي شهور الحج يبغي أن يطير إلى رباه
ليطوف بين الطائفين مهرولاً تعدو خطاه
ويقبل الحجر الذي تقبيله عز وجاه
وهذا الشاعر عبد المعطي الدالاتي يندب حظه حينما فاتته رحلة الحج الى مكة، فيقول:
اَلراحلون َإلى ديار أحبتي
عتَبي عليكمْ قـد أخذتم مهجتي
وتركتمُ جسدي غريباً هاهنا
عجبي له يحيا هنا في غربةِ
قلبي وأعلم أنه في رحلكمْ
كصُواع يوسـفَ في رحال الإخوةِ
فيما يصف ابن الأمير الصنعاني رؤية مكة عند وصوله لها بقوله:
وما زال وفد الله يقصد مكة
إلى أن بدا البيت العتيق وركناه
فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا
وكبرت الحجاج حين رأيناه
وقد كادت الأرواح تزهق فرحة
لما نحن من عظم السرور وجدناه
ومما ينسب إلى الشاعر علي أحمد باكثير في الشوق إلى مكة، قوله :
خذوني خذوني إلى المسجد
خذوني إلى الحجر الأسود
خذوني إلى زمزم علَّها
تبرد من جوفيَ الموقد
خذوني لأستار بيت الإله
أشد به في ابتهال يدي
دعوني أحط على بابه
ثقال الدموع وأستنفد
فإني أحيا على لطفه
وإن يأتني الموت أستشهد
كما قال يصف فرحته وسروره:
طف بي بمكة إني هدني تعبي
واترك عناني فإني ها هنا أربي
ودَعْ فؤادي يمرح في مرابعها
ففي مرابعها يغدو الفؤاد حبي
وختامًا
فإنه يصعب التطرق إلى كل ما قيل من قصائد وأبيات شعرية في وصف التمني والشوق إلى رحلة الحج الميمونة، ولن تتسع الصفحات لذلك لأن الشوق كبير والشعر وفير جدًا ومتعدد الشُعُب والأساليب والرؤى، بما يجعل القارئ يشعر بمتعة كبيرة لحظة قراءتها، هي متعة فرحة الوصول ولو بالمخيلة إلى مكة المكرّمة، ونسأل الله أن يكتب لكل مسلم مشتاق زيارة الديار المقدسة وأداء هذه الفريضة والطواف حول الكعبة.