المقالات

الحج .. زاوية متساوية الأجناس

يسطر الحج تجربة استثنائية في التعرف على الذات، والاندماج مع الاختلافات من لون وجنس. فهو أحد أبواب المعرفة التي يسخرها الله للإنسان؛ كي يعيد تشكيل هويته ويضبط من خلالها ميزان نفسه وقيمه؛ ليبدأ من جديد. تجربة الحج تعيدني للمعنى الذي تحمله الآية الكريمة “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”. فهي شعيرة تُأصِل القيمة الأخلاقية للمساواة وتضع معيارًا عادلًا للتميز من خلال التقوى.

سحابة بيضاء تلك التي تملأ المشاعر المقدسة، جموع غفيرة يسودها الخشوع، وصوت صادق ينادي … يالله. لا تكاد تعرف فيها الغني من الفقير أو العربي من الأعجمي، كلهم في الموقف سواء، رحمة إلهية واسعة، تسع كل تنوع واختلاف. تلك اللوحة الحية لقيم التسامح والتعايش تضعُ أمام العالم تجربة واقعية يعيشها ملايين الناس في أيام معدودات. تجربة تجرد الكل من مناصبهم، جنسياتهم وأموالهم، وتبقي لهم تلك الكفوف الفارغة والعيون الدامعة. تجربة تعيد تعريف ماهية الوجود ومعنى الإنسانية الحقيقي الذي يتعدى ما تنادي به المنظمات العالمية في كل مكان.

يعيش العالم حالة اختناق عنصري، تقودها بعض النفوس التي غُذيت الكره والاعتقاد أنها الأسمى، وأن مَن دُونَ قبيلتها، لونها وعرقها لا قيمة له. يُغلِفون تلك العنصرية بأعراف ومفاهيم لا أصل لها ولا لون. ينتصرون للوهم، لشيء فانٍ، لقيم تهدم ذواتهم قبل أن تفرق مجتمعاتهم. يبثون سموم جاهلية نتنة، تنبعث من قلوبهم قبل أفواههم لتشوه صورة الإنسان لدى الإنسان.

الحل هنا، من هذا المنبر الكوني الذي تهوي إليه كل القلوب، وتمتزج فيه الأصوات واللغات، وتُذَاب فيه كل المُعرِّفات، من أذان إبراهيم عليه السلام في الناس، من الحج. الحل في أن تتعدى التجربةُ أداء المناسك، وتنتقل إلى حمل معاني الحج إلى الحياة. أن يظل قلب الإنسان متوشحًا رداءً أبيض، ولسانه نقيٌّ من الرفث والفسوق والجدال. أن نتعدى حدود الخارطة ونتصالح مع ذواتنا لنتعايش مع الآخر، ونفهم أن اختلافاتنا آية من آيات الله في الكون.

لذلك وجب أن نعزز في نفوس أطفالنا أن الإنسان بعمله وعلمه، لا بنسبه ومادته، وأننا باختلافاتنا نشكل صورة شاملة متكاملة تسعى رسالة الإسلام السامية تحقيقها.

Related Articles

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button