د. خالد محمد باطرفي

اختفاء جمال خاشقجي بين الحقيقة والخيال

قلت لإعلاميين عرب وأجانب، في مقابلات صحفية وتلفزيونية، أن السعودية كانت واضحة منذ البداية وروايتها واحدة، موحدة وثابتة. فمن القنصل العام، إلى السفير، وحتى مقابلة ولي العهد مع وكالة بلومبيرغ، وما تلاها من بيانات رسمية، كانت الرواية السعودية واحدة: جمال زار القنصلية لإنهاء معاملة رسمية، وخرج بعدها بوقت قصير.

وخلال أيام من الحادثة، عرضت المملكة على الجانب التركي، وحتى الإعلاميين، زيارة القنصلية وتفتيشها، متخلية بذلك عن حقها السيادي بأن مبنى أي بعثة دبلوماسية يقع على أرض الدولة صاحبة البعثة. كما سارعت الدولة إلى إرسال وفد أمني للتحقيق في الحادثة، وعرضت على الجانب التركي تشكيل فريق عمل مشترك وحصلت على الموافقة.

كما تم الاتفاق على عدم الكشف عن أي معلومات حول مسار قضية خاشقجي إلا بعد الانتهاء من التحقيقات تمامًا. وهو الإجراء الطبيعي في مثل هذه الحالات، حتى لا يستفيد الجاني المحتمل من أي معلومة، ولا تشوش ردود الفعل الإعلامية والدبلوماسية على عمل المحققين.

التزم الجانب السعودي بهذا الاتفاق، ولم يصدر عنه أي تفاصيل حول مجريات التحقيق، ولكن الإعلام التركي والدولي يدعي بأن مصادر أمنية واستخباراتية تركية تبث تسريبات مسيئة للطرف السعودي، وتهدف إلى القفز لنتائج تدينه، وتعفي تركيا من المسئولية تمامًا. وواكب ذلك حرص بعض الإعلاميين الأتراك والعرب والغربيين على تلقف هذه التسريبات واستخدامها في تركيب مشهد خيالي لجريمة العصر.

بعضهم يفعل ذلك بغرض الإثارة والتكسب المادي من زيادة التوزيع والمشاهدة، والبعض يخدم أجندات إقليمية ودولية مشبوهة أهدافها تتفاوت بين الإساءة للسعودية وقيادتها، والتخريب على مشروعها التحولي ورؤيتها الحضارية، وبين الرغبة في إثارة الفتنة بين المملكة وتركيا، وهي من أكبر الدول الإسلامية، وأقدرها على مواجهة المشروع الإيراني والدولي لتفتيت المنطقة وإعادة صياغتها بما يخدم أمن إسرائيل ومصالح الغرب. أما التسارع والتكثيف العالي للحملة، وعلى مدار الساعة، فهي عملية استباقية تهدف لتحقيق أكبر قدر من الإساءة والتخريب قبل صدور نتائج التحقيق.

المملكة عبر تاريخها الطويل لم يسبق لها أن آذت معارضيها الذين يسيؤون لها فكيف تتهم بقتل من يختلف فكريًا معها؟ وهناك منشقون يمارسون التهجم والإساءة والتحريض منذ عقود، ويتعاملون بشكل مكشوف مع أعداء الدولة، كإيران وقطر وجماعة الإخوان المسلمين، وبعضهم، كسعد الفقيه، تآمر مع النظام القطري والقذافي على قتل خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله، رحمه الله. ولدى هؤلاء قنوات تلفزيونية وموارد مادية كبيرة وشبكات علاقات خطرة. ومع ذلك لم تستهدفهم الدولة بأي شكل من الأشكال. فكيف يعقل أن تستهدف بالقتل مواطنًا اختلف معها وكتب عنها انتقادات في الصحافة الدولية، ولكنه كان يصر في كل الأوقات على أن في عنقه بيعة لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، وأنه مواطن سعودي مخلص لبلاده، وحكومته، وولاة أمره؟

والتقارير المنشورة في الصحافة التركية والإعلام التركي والإخواني، والمنقولة في صحف أمريكية وأوروبية، فينطبق عليها القول: حدث العاقل بما لا يليق، فإن صدقك فلا عقل له. كما أنها تفتقد إلى المصداقية لأنها لا تسمي مصادرها ولا تتحقق من صحة الادعاءات، ولا تبذل مجهودًا في تمحيص الروايات ورصد تناقضاتها وتبدلاتها بين يوم وليلة، وساعة وأخرى.

ففي البداية كانت الرواية تؤكد حبس الخاشقجي داخل القنصلية، ثم تطورت إلى تعذيبه، فقتله، فتقطيع أوصاله، ودفنه. وعندما فتحت القنصلية أبوابها أمام الإعلام والأمن التركي، تغير مسار الرواية إلى نقله، أو نقل الجثة إلى ضواحي إسطنبول، ثم بيت القنصل، وأخيرًا إلى خارج تركيا.

ورغم عدم وجود شهود داخل السفارة، خاصة بعد دعوى أن الموظفين الأتراك أعطوا إجازة في ذلك اليوم (وهو ماتنفيه رواية الخطيبة المزعومة)، فقد نقلت التقارير تفاصيل سينمائية عن حالة تعذيب ومقاومة وصراخ ومشاهد قتل وتقطيع. وأن هناك أدلة ثبوتية لدى الأمن التركي عن طريق ساعة أبل ووتش التي يرتديها المجني عليه، متصلة بالآي فون الذي تركه لدى الخطيبة المزعومة. وتشمل هذه الأدلة فيديو بالصوت والصورة، بثت عبر البلوتوث إلى جواله.

يقول المثل: (ما أدراك أنها كذبة، قال من كبرها!). فساعة أبل لا يوجد بها كاميرا أصلًا، والمسافة التي يحتاجها البلوتوث لا تتعدى أمتارًا محدودة، في مساحة مفتوحة. والخطيبة كانت تقف على بعد أكثر من مئة متر وبين الجوال والساعة مبنى القنصلية. ولو كان ذلك صحيحًا فلماذا لم تقدم الأدلة في حينه للأمن التركي؟ ولماذا واصلت الاعتصام اليومي أمام القنصلية والمطالبة عبر وسائل الإعلام بإطلاق سراحه وهي تعلم يقينًا أنه ليس حيا؟

وإذا استبعدنا حكاية الآي واتش، فمن أين حصل الأمن على التسجيلات؟ هل كانت الاستخبارات التركية تتجسس على القنصلية السعودية بكاميرات ومايكرفونات من داخلها؟ ولماذا تتطالب بدخول القنصلية إذن، وتصر على مواصلة تحقيق محسوم من بدايته بما لديها من أدلة؟

ثم لماذا التعذيب إذا كان الهدف هو التخلص منه، وهل يحتاج قتل شخص واحد إلى فرقة من خمسة عشر عسكريًا محترفًا، وطبيبًا متخصصًا؟ وكيف استطاعوا أن يمرروا أسلحتهم ومنشارهم الكهربائي عبر أجهزة الأمن في مطار إسطنبول؟ هناك عشرات الآلاف يقتلون ويختطفون سنويا في تركيا من قبل أجهزة الأمن أو شبكة الجريمة المنظمة، ومعظمهم يختفون للأبد، وتغلق ملفاتهم. ألم يكن من الأسهل والأوفر التعاقد مع عصابة تركية لتنفيذ المهمة خارج مبنى القنصلية؟

ويبقى السؤال الأهم أو من المستفيد من هذه الجريمة الشنعاء؟ ولماذا التركيز على أكثر طرف متضرر منها—السعودية؟ إيران لها تاريخ طويل في اختطاف واغتيال الدبلوماسيين في الخارج، وخاصة السعوديين منهم، وبالذات في تركيا. وهي الأكثر استفادة من الخلاف القائم والحملات المستعرة على المملكة. كما أنها من أكثر الدول تخصصًا في الإرهاب الإلكتروني، وسبق أن عطلت شبكة ارامكو وهاجمت عددًا من البنوك والجهات السعودية. ألا يحق لنا التساؤل ما إذا كانت وراء تعطيل شبكة الكاميرات في القنصلية لمسح صور خروج الخاشقجي؟

لا أستغرب أن لا يطرح إعلام قطر ومحور المقاومة هذه الأسئلة المبدئية، والمنطقية، ولو من باب توسيع دائرة التكهنات، فهدفهم واضح وغرضهم معروف. ولكن الغريب أن صحفًا أمريكية عريقة لا تطرح هذه التساؤلات أيضًا، وتنقل عن مصادر إعلامية وتركية غير مسماة، وتنشر قصصًا تتحدى الخيال بدون تدقيق أو تمحيص!

أرى أن تقوم القنصلية وأسرة جمال خاشقجي بمقاضاة جميع من أساء إليه وإليهم، في محاكم تركيا وأمريكا وأوروبا. ويشمل ذلك القنوات والصحف القطرية، فجميعها لها مكاتب أجنبية، وبالتالي مسجلة في العواصم الدولية. وأن تشمل المطالبة التعويض المادي والاعتذار الصريح عن الإساءات والاتهامات التي لم تستطع إثباتها.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button