(هل اليابانيون ليسوا بحاجة إلى إتقان اللغة الإنجليزية لكي تُبْنَى حضارتهم أو يُعلن تقدمهم؟!)
كنت أسمع عن الإمبراطورية اليابانية كما لو أنني أرى حلمًا بعيدًا، يستحيل
إتيانُه من شدة عظمتها وقوتها السياسية والتعليمية والاقتصادية والصناعية.
في إحدى الدورات التدريبية التي كنت أحضرها في مركز المعلم القدوة؛ علمتُ من إحدى الصديقات أن مديرة المركز تنظم رحلاتٍ عالميةً خارجية تعليمية، لنقل الخبرات والتأملات للتعليم السعودي من الدول المتقدمة. كنت أستمع إليها وكأنني أُبصر باب الطائرة يفتح، والسلم يسدل، ومضيفة الطائرة تبتسم، والمقعد يبتهل، والفرحة تشرع والقلب يخفق، ليدرك أن مساحاتِ العالم أصبحت صغيرة قريبة. لأحلق بعيدًا بحثًا عن تطوير كفاءتي في التعليم وأرتقيَ بتعليم بلادي. فمنه وإليه صنعتُ رغبتي ووضعتُ خطتي وكافحتُ من أجل الوصول، مقتنعةً أنه لايوجد هناك فشل، بل يوجد تقاعس وكسل.
التحقتُ بتلك الرحلة الفريدة لبلاد الشمس المشرقة التي منها يطل علينا دومًا كل جديد ومستحسن.
لطالما أُعجِبت باليابانيين منذ نعومة أظفاري كنموذج للقوة والأنفة، وذلك من خلال مشاهداتي للأفلام الكرتونية والبرامج الكوميدية. إلى أن منّ الله عليّ بالسفر إليها بدايةَ العام 2018 فكانت لي بدايةَ سنة ميلادية جديدة فريدة من نوعها، ومختلفة وسّعَتْ آفاقي وطوّرَتْ مداركي الثقافية، وأرضتْ جنون رغبتي التعليمية، وأشبعت شغفي بمهنتي وفضولي كمعلمة لغة إنجليزية، إِذْ طالما أحببت وظيفتي، واهتمامي كبير لتعليم طالباتي الأفضلَ والمثري والمفيد.
رسمتُ سحائب أهدافي وأنا أحجز تذكرة ذهابي وإيابي، متجولةً بأفكاري لمشاهدة كيف هو حال التعليم الياباني في تدريس اللغة الإنجليزية؟!
أغمضت عينيً لوهلة، لأرى الطالب الياباني محفزًا مستمتعًا، يرتدي السماعات الإلكترونيّة في المعامل اليابانية المتطورة تكنولوجيا، والتي تديرها (سايا) المعلم الروبوت -الإنسان الآلي- الأنثى ذات الشعر البني والعينين السوداويتين، وترتدي تنورة نسائية أنيقة وتساعده على إتقانِ اللغة الأجنبية؛ فترفع حاجبيها عند الدهشة أو الغضب، وتلقنهم الإنجليزية دون امتعاض، تحاورهم دون انقطاع من كلل أو ملل.
فقد بُرْمِجَت لتدريس اللغات والتواصل مع الطلاب بقراءة القصص لهم واللعب معهم والرقص والغناء.
فتحتُ عينيّ منبهرة بجمال وازدهار الطرق والمباني اليابانية، فشوارع طوكيو رسمت رسمًا يتعجب منه العالم في الترتيب والدقة والتنظيم. توشحت أبراجها بالشاشات الإعلانية الضخمة بلغتهم اليابانية الأصيلة والتي زودت بمكبرات الصوت العالية جدًا. فالمجتمع الياباني يصغي جيدًا لكل ما يَسْمَع وكأنه يسير على النغمات التي تصدر من تلك الشاشات.
رحلتنا كانت قصيرة ولكنها وفيرة، جدولت أيامها بين السياحة والتعليم والترفيه.
برودة الجو أنعشت مهاراتي؛ فنشطت تأملاتي، وألهمت قدراتي للتفكر والتدبر والتذكر.
وفي أول زيارة للمدارس اليابانية المتقدمة -مدرسة ميجي الأهلية- المدرسة المتخصصة في تخريج قادات الإمبراطوريّة العظيمة زودت خبراتي.
تمّ تقسيمنا إلى مجموعات، وانضممتُ لفريق المرحلة الثانوية، وكنتُ حريصة على مشاهدة حصص اللغة الإنجليزية عن كثب؛ منذ أن يُقْرع الجرس إلى أن يعلن عن انتهاء الحصة. اتجهنا نحو الفصول، كانت خفقات قلبي تسبق خطواتي لهفةَ لما سأشاهد.
دخلت الفصل؛ غرفة طويلة عريضة نظيفة مرتبة تتسع لأكثر من أربعين طالبًا وطالبة. تعجبت! سبورة طباشير قديمة سوداء كتبت عليها جملة تحضيرية واحدة باللغة الإنجليزية وتليها ترجمتها باللغة اليابانية كموضوع أو فكرة رئيسية للدرس.
ثلاثة ألوان من الطباشير هي المستخدمة
(أبيض-أصفر- أزرق) حددت هذه الثلاث ألوان لسبب!!
الطلاب يجلسون في مجموعات كبيرة كل مجموعة تتكون من ستة أعضاء، زودت كل مجموعة بجهازٍ حاسوبيٍّ واحد يستخدمونه للبحث عن معاني الكلمات وترجمتها إلى اللغة الأم. استقبلتنا المعلمة ببشاشة، ورحبت بنا هي وطلابها بتحيتنا الإسلامية وبصوت واحد..الجميع: (السلام عليكم). أسعدنا وأدهشنا احترامهم لهويتنا العربية. لا أبالغ فاحترامهم وتعاملهم وتحضرهم فاق -من وجهة نظري- العالمَ أجمع.
الطاولات ملئت بالأوراق، وزعتها المعلمة على المجموعات التي انضممت أنا لإحداها كعضوة مشاركة فيها كي أراقب وأستكشف أداء الطلاب وطريقة تعلمهم.
قُسّمت الورقة إلى عدة أفكار تفصيلية يسجلها الطلاب، وينهونها بكتابة رأيهم حول الموضوع. تناولُ الطلاب لورقة العمل كان مستفزا لي كمعلمة! غير مهتمين فهم يلعبون ويستمتعون بالحديث حول الموضوع ويتمازحون فيما بينهم كما لو كانت الحصّة للتسلية، أو حصة نشاط
لا صفيّة. اقتربت منهم لكي أحاورهم وأناقشهم حول بعض المفردات وجدت أنهم يستغرقون وقتًا كثيرًا للتفكير في الإجابة.
لم تقنعني حصة اللغة الإنجليزية اليابانية فمجرياتها تقليدية؛ إذ تعتمد في الدرجة الأولى على اللغة الأم.
فكنت أُهَوّنُ الأمر في نفسي وأقول: ربما مصادفة لأحد الفصول غير المتميزة.
انتهت الحصة وكنتُ في ذهول؛ لم أستوعب ماشاهدت. هل طريقة تدريس المعلمة اليابانية للغة الإنجليزية صحيحة مقارنةَ بطريقتنا في مدارسنا السعودية؟!
لم ينتهِ عندي الشغف لحضور فصول أخرى. ذهبت في جولة حول الفندق الذي نزلت فيه وتعمدت أن أضلّ الطريق وأسأل عن وجهتي باللغة العالمية لكي أقيس مدى استخدام اليابانيين لها. كان هناك مجموعة من الشبان الذين استجوبتهم وكنت أسألهم باللغة الإنجليزية فيضحكون بصوت عالٍ، ويفتحون لي أجهزتهم لكي أترجم لهم ماأقول، ولسان حالهم يقول: لاحاجة لنا بتعلمها.
أيعقل أن لا يوجد بينهم شخص واحد على الأقل يعرف كيف يصف لي وجهتي أو يقول لي: (من هنا – إلى اليمين – هناك – خلف المكتبة ) حتى لأبسط الكلمات!!!
لم أصدق الأحداث التي مررت بها، فهي أشبه بالكابوس المزعج الذي أتمنّى ان أفيق منه. غيرت وجهتي فذهبت إلى السوق لكي أتواصل مع فئة العاملين والباعة، ووجدتهم يتحدثون قليلًا باللغة الإنجليزية لاهتمامهم، وحرصهم بالسائح الياباني لما في ذلك من خدمة اقتصادية ومنفعة تعود للمجتمع الياباني.
صدمة الإنجليزية اليابانية دوّت كقنبلة نووية خلفت ضحاياها من تخيلاتي العقلية وتصوراتي الذهنية، وأصبحت عندي قضيّة استثارتني لكي أبحث بقراءاتي وتصوير تأملاتي حول التعليم الياباني في تعليم اللغة الإنجليزية، وعرفت أن المتعلمين اليابانيين يواجهون صعوباتٍ بالغةً في تعلّمها.
السؤال الآن وكلّ آن: هل اليابانيون ليسوا بحاجة إلى إتقان اللغة الإنجليزية لكي تبنى حضارتهم أو يعلن تقدمهم؟؟!!
أم أنّ تمسكهم باللغة الأصلية وعدم تشجيع الياباني على التحدث باللغة الإنجليزية هوالسبب؟ أم هو عدم السماح له بممارستها داخليًا إلا عند الضرورة التي تستوجب ذلك كالأعمال الدولية المالية وفي مجال التوظيف فقط؟!
كوني معلمة مهتمة مهنيًا لنجاحاتي؛ أصبحت أدرك أنه لا بد من استكشاف وتقصي هذه القضية؛ ألا وهي أن خبرة المعلمين اليابانيين في اللغة الإنجليزية وتمسكهم بالخطأ اللغوي قد يكون ناجمًا عن اعتمادهم على اللغة الأم في تدريس اللغة الإنجليزية وتعصبهم للحفاظ على هويتهم الوطنية وهو أهم أسباب التدني في مستوى الياباني في اللغة الأجنبية كما يبدو. غير أنهم ليسوا بحاجة لتلك اللغة الأجنبية؛ لتكون اليابان قد حققت بالفعل ذلك التقدم العلمي والحضاري المبهر بدون الحاجة للغة الإنجليزية للنمو والنهوض.
تناقضات وتساؤلات ومعارضات واجهتني قلبت موازين تفكيري نحو إعادة النظر في طريقة تدريس اللغة الإنجليزية كلغة عالمية في مدارسنا السعودية مقارنةَ بماهي عليه في اليابان، وهل اندماجنا وتمكننا من تلك اللغة سيطغى وسيمحي هويتنا الوطنية؟!
تساؤلات بحاجة إلى مزيد من البحث والتقصي …
راااااائع للإمام اختي الغاليه
مقال جدا جميل ورائع خصوصا إعتزاز اليابانيين بلغتهم الأم ومدى التطور الذي بلغ مداها جميع أنحاء العالم .
جميل ما كتبتيه يا نوره … سلمت أناملك يا رائعة …. العقول ليست بحاجة للغة معينة عشان تخترع وتنهض يكفي أنها تنجز ولغة البلد لا أجمل ولا أفضل منها علاوة على أن التعليم التقليدي رائع ونحن خرجنا من تحته
رائعة فعلاً
شيء جمييييييل بصراحة يا أ/نورة اهني نفسي في معرفة شخص طموح مثلك ماشاء الله الله يبارك لك ويبلغك من العلم اتمه?
مقال جميل ورائع وتجربة مبهرة ،اليابان دولة متقدمة في جميع المجالات ومحافظة على هويتها فتقدمت ولم تقلد أحداً فالجميع ينظر لها نظرة يحاول أن يصل إلى بصيص أمل لما وصلوا إليه بتقدمهم وحضارتهم وهويتهم
بوركت جهودك فبمثلك يحق لنا أن نفخر بها.
كلام فوق مستواء الابداع وطرح جدا رايع
كلام فوق مستواء الابداع وطرح جدا رايعروعه
أهنييييييييك من كل قلبي متميزة من يومكِ وأستمري?♥️♥️♥️♥️
رائع اختي نورة
ماشاءالله يا أستاذه كالعاده مبدعه اهنيك على مقالك الجميل هذا ??❤️❤️❤️❤️
طرح رائع أستاذه نوره بارك الله فيك وفي علمك الوطن في حاجه همم وأشخاص مبدعين أمثالك ?
جمييل جدًا ، أبدعتي أستاذة نورة
أتطلع لقراءة المزيد من مقالاتك?????