كأنَّما أراد عبد الواحد الحميد أن يتَّقي الحديث عن النَّفس لَمَّا اختار عبارة “سنوات الجوف” عنوانًا لكتابٍ رُبَّما جاز أنْ ندعوه “سِيرة ذاتيَّة”، أوْ “ترجمة نفس”، لكنَّه أمعنَ في صَرْف قارئه عنْ هذا المنحى فأَتْبَعَ العنوان الكبير عنوانًا آخَرَ صغيرًا نقرأ فيه عبارة “ذكريات جيل”. على أنَّ القارئ مهما أراد الكاتب صَرفه عن “السِّيرة الذَّاتيَّة”، غير مستطيعٍ أن يأخذه بعيدًا عنْ ذلك النَّوع الأدبيّ، نَعَمْ إنَّه لا يستطيع أن يَحْمل المؤلِّفَ على رغبته، لكنَّه، كذلك، لن يَخْرج عمَّا وَقَرَ في صدره، لا سيَّما أنَّ المؤلِّف أثبت على الغلاف صورة شخصيَّة غائرة في الزَّمن، يلوح مِنْها ذلك العهد الَّذي كانتْ فيه الجوف مَدْرَج نشأته ومسرح أحلامه.
قدْ يقال: إنَّ عبد الواحد الحميد لمْ يُرِدْ أن يكون أَثِرًا، فَتَجَنَّبَ الحديث عنْ سِيرته، واختار الجِيل سبيله إلى ترجمة نَفْسه، لكنَّك كُلَّما تَقَدَّمْتَ في الكِتاب تدرك أنَّك إنَّما تقرأ سِيرة جيل وسِيرة مكان، وتقرأ، كذلك، سِيرة إنسان ينتميإلى هذا الجيل وذلك المكان، ولعلَّك خَشِيتَ أنَّ الكاتب الَّذي اتَّقَى الحديث عنْ نَفْسه، وأنكر ذاته = يُحَوِّل كِتابًا معدودًا في أدب السِّيرة الذَّاتيَّة إلى “ذكريات”إنْ نفعتْ دارس التَّاريخ والفلكلور؛ فلن ينتفع بها قارئ الأدب – والسِّيرة الذَّاتيَّة نوعٌ أدبي – متى أراد أن يَجْلُوَ حياة إنسانٍ مِنْ لَحْمٍ ودَمٍ، وقدْ طالما جَنَى كُتَّابٌ ومؤلِّفون على أنفسهم وعلى الكتابة والأدب لَمَّا استسلموا لِلَذَّة السَّرد، فجعلوا يتبارَوْن في تعداد ما كان عليه “الزَّمن الجميل” مِنْ عاداتٍ لا تَعْرِفها الأجيال الجديدة، وتقاليدَ هي جزء مِنْ تراث تلك الأمكنة والسَّاكنيها.
هذا ما حَكَّ في صدري ساعةَ أخذْتُ الكِتاب، ثُمَّ لَمَّا مَضَيْتُ أقرأ فواتحه،والحمد لله على أنْ خَيَّبَ عبد الواحد الحميد ظنِّي؛ فلمْ يجلسْ مِنْ قارئه مجلس “الواعظ” يَقُصّ عليه حديثًا مكرَّرًا مملًّا عنْ أمكنةٍ أهملها الزَّمان، وجيلٍ كابَدَ الصِّعاب، وأنشب أظفاره في الصَّخر، ثُمَّ أفاء الله – تبارك وتعالى – عليه بأن يجتاز كلَّ تلك الصِّعاب، ويمضي في تعليمه الأوَّلِيّ والعامّ، حتَّى إذا أَتَمَّ التَّعليم الثَّانويّ، اختلف إلى الجامعة، فلمَّا تَخَرَّجَ فيها ابتُعِثَ إلى الغرب، فعاد إلى وطنه يسبقه لقب “دكتور”، ونَعْرِف، بعد ذلك، تتمَّة “الحكاية”، ما بين الجامعة،واللِّجان العُلْيا، ووكالة الوزارة، ومجلس الشُّورى، حتَّى صار “نائب وزير”!
وفي الحقِّ إنَّ ذلك ما يَعْرِفه القارئ عنْ عبد الواحد الحميد، ولوْ لمْ يُخْرِجْ كِتابه “سنوات الجوف”، فالرَّجُل لمْ يَكُنْ مِنْ غِمَار النَّاس، وكان يكتب فُصُولًا في الصِّحافة، بعضها في هُمُوم الصَّنعة في الاقتصاد والتَّنمية، وبعضها في مَنازعَ مختلفة يُشَمُّ مِنْ وراء كلماتها أنَّ الرَّجُل كأنَّه أَسْكَتَ في داخله صوت الأديب، ونَزَلَ على شرط التَّخصُّص العِلْمِيّ والوظيفة الكبيرة.
لكنَّ هذا الحَذَر سَرْعان ما يَزول كُلَّما أنشأْتَ تقرأ فصلًا، حتَّى إذا أتممتَه،أَسْلَمَكَ إلى الفصل الَّذي يليه، وإذا بكَ لا تقرأ في الكِتاب ما ظننتَه، ثُمَّ إذا بكَ تَحْمَد للكاتب أنْ لمْ يَعْلَقْ في حبائل الذِّكرى ومَصايد “الزَّمن الجميل”، ولمْ تَكَدْ تقرأ في طُول الكِتاب وعَرضه كلامًا جعله توطئةً لطفلٍ نابهٍ نابغٍ، قاسَى الحياة حتَّى انتهى إلى ما انتهَى إليه. لمْ يصنعْ عبد الواحد الحميد ذلك،وأغلب الظَّنّ أنَّ ماضيه في “صنعة الأدب” – وما لنا لا نقول: “حرفة الأدب”،وعهده بها قديم، وتَمَرُّسه في الكتابة = لمْ يَخْلُوَا مِنْ نزعة إنسانيَّة، وإنْ كانتْ في الاقتصاد والتَّنمية = كلُّ ذلك نَحَّى الكِتاب عن الوقوع في ذلك الشَّرَك، وإنْ كَتَبَ عنْ نَفْسه، وإنْ كَتَبَ عنْ مدينة ينتمي إليها، وجِيلٍ هو واحدٌ مِنْ أفراده.
ويُعَرِّفكَ الكِتاب أنَّ عبد الواحد الحميد أَحَبَّ الأدب والصِّحافة، منذ كان شابًّا يافعًا في الجوف، وأنَّه عاش سنوات صعبة قاسية، لمْ يَعْرِفْ فيها الماء النَّظيف،ولا أنوار الكهرباء، فلمَّا أَتَمَّ تعليمه الثَّانويّ، كانتِ النِّيَّة أن يَدْرُس اللُّغة الإنـﮕليزيَّة، أو الإعلام، لولا أنَّ واحدًا مِنْ أساتذته زَيَّنَ له دراسة الاقتصاد،فَتَرَجَّحَ هذا العِلْم النَّافر الكَزّ على فؤاد صاحبنا، وغارَ في وجدانه ما كان ينشئه، آنئذٍ، مِنْ قصصٍ، ما كان يُدْرينا لوْ أنَّه أخلص لها أنْ سيكون مِنْه أديبٌ قاصٌّ معدودٌ في الأدباء القَصَّاصين، وعساه أعاد إلى أذهاننا أسماء جمهرة نَعْرِفهم حقَّ المعرفة، لمْ يصرفْهم الاقتصاد ولا القانون عنْ “غواية” الأدب، مِنْهم غازي القصيبيّ، وله في قلب صاحبنا وفكره مقام سَنِيّ، لكنَّه لمْ يفعلْ، على أنَّه لَمَّا اختار الكتابة عنْ شيْء هو أدنَى إلى نَفْسه مِنْ سائر صُنُوف الكتابة = كانتْ سنوات النَّشأة في الجوف، تلك الَّتي عَرَفَ فيها طه حسين، والعقَّاد، ونجيب محفوظ = قدْ آزرتْه، فأنشأ يكتب عنْ تلك النَّشأة في الجوف، وعن الجيل الَّذي يَعْتزي إليه، فكانتْ موهبة الأمس أمانًا له مِنَ التَّعثُّر، كما تَعَثَّر غيره!
وأحسب أنَّه ما كان مظنونًا لعبد الواحد الحميد أن يتعثَّر؛ ذلك أنَّ الحياةالثَّقافيَّة في المملكة عَرَفَتْ فيه الكاتب والمثقَّف قبل أنْ تَعْرِف فيه “المسؤول” ذا المنصب الرَّفيع، فهو، مهما ارتقَى في الوظيفة ومهما تَقَلَّدَ مِنْ مناصب = واحدٌ مِنْ “قبيلة” المثقَّفين، مثلما كان غازي القصيبيّ، المسؤول والوزير والسَّفير،حقيقًا بأن يُحَدِّثنا عنْ قبيلة الشُّعراء، حِين أذاعَ في النَّاس كِتابه اللَّطيف البديع “عنْ قبيلتي أُحَدِّثُكُمْ”!
لن يستخفي على القارئ تلاؤم ما بين الأدب والاقتصاد – وما لي لا أقول:“التَّنمية” – في “سنوات الجوف”، بلْ إنَّني أحسسْتُ ذلك كُلَّما مضيْتُ في فُصُول الكِتاب، فأنا أَعْرِف سِيرة عبد الواحد الحميد وجِيله، مهما قرأْتُ فُصُولًا عن التَّحوُّل الَّذي أصاب مدينة “سكاكا”، حيث وُلِدَ الكاتب ونشأ وترعرع، نَعَمْ أنشأَ عبد الواحد الحميد يحدِّث قارئه عمَّا أصاب مدينته مِنْ تَحَوُّل، لكنَّه أَحْسَنَ إذْ لمْ يَفْصِلْ ما بين مدينته ونفسه – وجيله – فدَلَّتْنا تلك الفُصُول على سنوات النَّشأة، ورُبَّما قرأْنا فيها ما هو أَدْخَلُ في ذاته، ورأيْنا مثلما رأى الدَّهَشَوالعجب حينما اتَّصًلَتْ حياته ببداءات التَّنمية والنُّهُوض، في مدينته سكاكاالَّتي طالما أَلِفَتْ بيوت الطِّين، أوْ مدينة عرعر تلك الَّتي دعاها “أُمّ الدُّنيا”،بفضل ما أتاحه “خطّ التَّابلاين”، لَمَّا مَرَّ بها، مِنْ أسباب النُّهُوض والتَّقدُّم، مِمَّا لا يحلم به الفتى الجوفيّ في مدينة سكاكا، فلمَّا اتَّصل، في ذلك العهد البعيد،بالرِّياض، كانتِ العاصمة في عينيه “أُمّ الدُّنيا وأباها”! وأدرك أنَّ حياته في “مُدُن الأطراف” لمْ تَكُنْ لِتَعْنِي شيئًا في طَوْر النُّهُوض والتَّنمية، حينما رأى العاصمة، فَعَبَّ مِنْ مباهجها لَمَّا أُتيحَ له أن يقضي فيها يومين أوْ ثلاثة أيَّام لعارض صحِّيّ أَلَمَّ به!
على أنَّ سكاكا الجوف، وإنْ كانتْ مِنْ “مُدُن الأطراف” فإنَّ لها حياةً أخرى تَقَلَّبَتْ فيها، ورُبَّما كان وقوعها في مكانٍ ناءٍ قصيّ أَدْعَى لاتِّصالها بمجتمعات وثقافات عربيَّة مجاورة لها، وأنتَ تَعْرِف أنَّ الجوف تُسامِت العراق وسوريَّة والأردنّ، وإلى كلِّ تلك البلدان رَدَّ عبد الواحد الحميد ذلك التَّنوُّع في ثقافتها. أَلِفَ أهلوها سِحنات السُّوريِّين والأردنيِّين والفلسطينيِّين في الشَّارع والمتجر والمعهد والمدرسة، بلْ إنَّ أبناءها مِمَّن اختلفوا إلى المدارس كانوا قدِ اعتادوا وجوه معلِّمين مِنْ إنـﮕلترا وإيرلندا، ثُمَّ إنَّ التَّنمية، لَمَّا تأخَّرتْ عنْ تلك “الأطراف”،استعاض أبناؤها بالمتاح والممكن، فثقافة تلك الأمكنة القَصِيَّة – وإنْ كانتْ جزءًا مِنَ المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة – مَدينةٌ، في ذاكرة عبد الواحد الحميد وجيله إلى أثير الإذاعات الَّذي يبلغهم في الجوف وما حولها مِنَ الأردنّ وفلسطين والكويت والعراق، وعساهم عرفوا طَرَفًا مِنْ حياة تلك المجتمعات العربيَّة وألوان الثَّقافة والفنّ والأدب فيها = فوق ما عرفوه مِنْ ثقافة بلادهم الَّتي يَعْتَزُون إليها وينتسبون.
كان عبد الواحد الحميد مفتونًا بسنوات الجوف وذكريات جيل ينتسب إليه،كانتِ الجوف، في ذلك العهد – رُغْم تأخُّرها في التَّنمية – مجتمعًا متسامحًا، لا يَعْرِف أهلوها التَّشدُّد في الدِّين. وعلى أنَّهم يرتفعون، في عمومهم، إلى قبائل عربيَّة = لمْ يكونوا لِينتسبوا، في ذلك الماضي البعيد، إلى ما سِوَى الجوف، فلمَّا دَبَّتِ التَّنمية، شيئًا فشيئًا في أوصالها، تَبَدَّلَ الحال غير الحال، وإذا بذلك المجتمع الَّذي لا يَعْرِف العصبيَّة القبليَّة، وطائفةٌ مِنْ أبنائه تلوذ بالتَّعصُّب والمفاخرات القبليَّة، وإذا بالتَّسامُح الدِّينيّ يشحب لَمَّا هَبَّتْ على تلك النَّاحية أفكارٌ نازعتْهم ما نشأوا عليه، فبلبلتْ أفكار نابتة مِنْهم، حتَّى كأنَّهم لمْ يَعْرِفوا التَّسامُح مِنْ قَبْلُ!
أَلَحَّ عبد الواحد الحميد، كثيرًا، على تلك السَّنوات، وعلى ذلك الجيل. نَعَمْ لمْ نقرأْ في كِتابه أنَّه كَابَدَ حياةً صعبةً فلانتْ له، ولا فقرًا فاغتنَى، ولا حاجةً، ولا عَوَزًا، ولا فاقةً، وإنْ كَابَدَ كلَّ ذلك وقاساه هو والجيل الَّذي هو فردٌ مِنْه، وإنَّه لوْ فَعَلَ ذلك لَجَفَا قارئه قَصَّه واعتدَّه ضَرْبًا مِنْ ضُرُوب الافتخار الثَّقيل الوقْع على النَّفْس والعقل، وأحسب أنَّ عهدًا بالكتابة قديمًا كان قدْ أَمَدَّه حِين لزمه أن يكتب، وكأنَّما الرَّجُل كان يَتَحيَّن ساعة يُقَيِّد طَرَفًا مِنْ تلك الحياة الَّتي كانتْ عليها الجوف، وعاشها عبد الواحد وطائفة واسعة مِنْ أبناء جيله.
كان عبد الواحد الحميد واحدًا مِنْ ذلك الجيل، ولعلَّ قارئه يَعْرِف فيه ذلك كُلَّما مضى في الكِتاب، وأظهر ما كان عليه أولئك الجوفيُّون، مِمَّنْ عَرَفوا الحياة في عشر السَّبعين مِنَ القرن الرَّابع عشر الهجريّ، وبواكير الشَّباب في عشر الثَّمانين مِنْه = اتَّصلوا بتلك الأفكار الَّتي استهوتْ أجيالًا مِنَ العرب، في المشرق والمغرب؛ آمنوا إيمانًا ساذجًا بالعروبة والقوميَّة، واحتلَّ النِّضال الفلسطينيّ موقعًا سامقًا في أفئدتهم، ولعلَّ عبد الواحد وجيله مِنْ شُبَّان الجوف عرفوا مِنْ تلك التَّيَّارات والأفكار فوق ما عرفوه مِنْ أمر بلادهم الَّتي يَعْتزون إليها، ونحن، وإنْ لمْ نَعْرِفْ أنَّ عبد الواحد تَطَبَّعَ “حَرَكِيًّا” بفكرة مِنْ تلك الفكرات السِّياسيَّة، كما كان لنفرٍ مِنْ أبناء جيله في غير ناحيةٍ مِنْ نواحي بلاده، ولمْ تُوردْه المهالك، كما أوردتْ غيره = فإنَّ في تلك السِّيرة إلماحاتٍ إلى تَسَرُّب شيْء مِنْ تلك الأفكار الَّتي تضجّ بالثَّورة، عَرَفَها عبد الواحد مِنْ أساتذته الفلسطينيِّين، حتَّى إذا ما كُشِفَ أمر نفرٍ مِنْهم، اُبِعدوا، مِنْ فَوْرِهِمْ، عن البلاد،وعَرَفْناها، مِنْ قَبْلُ، فيما أَدَّاه إلينا متروك الفالح، في مؤلَّفاته عن الجوف.
ساق إلينا عبد الواحد الحميد ذلك، وكأنَّه يريد أن يُخْرِج الجوف مِنَ “الطَّرَف القَصِيّ”، ويَصِلَها، رأسًا، بما تَقَلَّبَتْ فيه الحياة العربيَّة، في السِّياسة والاجتماع، أوْ كأنَّما أراد أن يَفْصِل ما بين تأخُّر مدينته عنْ رَكْب التَّنمية والتَّقدُّم، آنئذٍ، واتِّصال أبنائها بالأفكار والمَنازع، وفي الحقّ إنَّ “سنوات الجوف” يستطيع قارئه أن يَجُوز به عتبة الأدب – متى أراد – ويتَّخذه شاهدًا على حقبةٍ تَقَلَّبَ فيها نابتة ذلك العهد مِنْ شُبَّان الجوف، في الأفكار الَّتي تَنَازعَتْهم، وإنْ لمْ تبلغْ تلك الأفكار أنْ هَوَتْ بهم في مهاوي الرَّدَى، أوْ على الأقلّ هذا ما باحَ به الكِتاب وسمح به.
وفي “سنوات الجوف” نغمةٌ حبيبةٌ حلوةٌ، وحَسْبُنا أنْ نُعِيد التَّذكير بمجتمعٍ اطَّرَحَ القبليَّة، وإن انتسبَ إليها، وأَقْبَلَ على الغناء والفنّ قَبْلَ أن تزكمه روائح “الصَّحوة”، فَتَحْرِفه عمَّا نشأ عليه، واتَّصَلَ بالسِّحنات العربيَّة قبل أن يَعْرِف قسمات أبناء بلاده مِنَ السُّعُوديِّين، فإذا أنزلنا ذلك على عبد الواحد الحميد،صاحب تلك السَّنوات، فعسى أنْ نرى فيه مِثَالًا للجوف الَّتي تَجَرَّدَ للكتابة عنها:
كان عبد الواحد فتًى كغيره مِنْ فِتيان الجوف، رأى في التَّعليم فرصته الوحيدة لبلوغ ما يريد، وكان مِنْ أوساط النَّاس، لمْ يُدِلَّ على قارئه بنبوغٍ ولا ما يشبهه، بلْ كان فردًا مِنْ جيلٍ فعل مثلما فعل، فلمَّا شارَفَ الشَّباب أقبل على الثَّقافة والأدب، فَعَبَّ ما شاء له الله أن يَعُبَّ مِمَّا أُتِيحَ له في مكتبة أبيه – وكان رجُلًا مستنيرًا – وحُبِيَ في عشر الثَّمانين مِنَ القرن الهجريّ المنصرم، بأساتذةٍ عربٍ مثقَّفين، بلْ إنْ بعضهم كان أديبًا شاعرًا، مهما ابتُلِيَ بآخرين قُساةٍ غِلاظ،فلَمَّا أنشأ يخطو خطواته الأُولى خارج الجوف، أدرك، بعض إدراكٍ، صورة الوطن الَّذي يحمل هويَّته، وجعل يتأمَّل سحنات مواطنيه، أولئك الَّذين عَرَفَهم في عرعر، أوَّلًا، ثُمَّ في الرِّياض وجدَّة، حتَّى إذا قابلْنا ما سَطَّره عبد الواحد الحميد في “سنوات الجوف” على حياته الَّتي نَعْرِفها، أدركْنا ذلك الأثر الَّذي طَبَعَتْ به الجوفُ ابنَها لَمَّا اتَّصَلَ، منذ شبابه المبكِّر، بغير ناحيةٍ مِنْ بلاده، فكان لِجُدَّة الَّتي اختلف إلى جامعتها، والظَّهران الَّتي أمضى فيها سنوات العمل الجامعي، والرِّياض الَّتي ألقَى عصاه في ساحتها، أخيرًا = مثل ما للجوف الَّتي أورثتِ ابنَها أَظْهَرَ مناقبها: رُوحًا سَمْحًا، ونَبْذًا للتَّعصُّب، مهما يَكُنْ. كلُّ ذلك كان في عبد الواحد الحميد وجيله، ذلك الجيل الَّذي عَرَفَ الأفكار، في شبابه، وكان، بحقٍّ، كما أراد “قنطرةً” بين الأجيال، وأحسب أنَّنا نُمْسِكُ في كِتابه هذا ما يُدْنِيهِ مِنْ تاريخ الأفكار، لولا أنَّه لاذَ بنفسه واعتصم بها، فاستوَى له مِمَّا أنشأ كِتَابٌ معدودٌ في أدب التَّرجمة الشَّخصيَّة، وكانتْ هذه “الذَّاتيَّة”الَّتي صَدَرَ عنها، لُحْمَة الكِتاب وسَدَاه، وحالتْ دون أن تستلب “ذكريات الجيل”أخصَّ ما تمتاز به “السِّيرة الذَّاتيَّة” مِنَ “الذِّكريات”.