راحت القوارب ترقص بغنج ودلال على إيقاع مائي مالح، تجوس الماء في غلس الفجر السادر في الهدوء….الأمواج الخفيفة تحدث فرقعة، وهي تصطكّ في جنبات القوارب المتثائبة….خشخشة الحبال أثناء سحبها، وهي مربوطة في رقاب أعناق القوارب. سواعد سمراء تحرّك بقوة المجاديف لتنزلق القوارب في عمق الماء….صفحة الماء كشيلة فاتحة اللون….تناثرت القوارب على صفحة الماء. الحناجر تمد لحنها العشبي الأخضر… يا الله …، يا الله … قامات نحيلة كالمسامير مثبتة في القوارب.
نظرات الشوق والرجاء للبحر…الأمواج مسترخية تغري سيف القوارب بشقّه…عينا الغواص معلقة في السماء، يدلك خوفه بآمال واسعة قد سرّها في صدره استحال البحر إلى لؤلؤة ضخمة…افترّ فمه عن ابتسامة…دلك لسانه بلحن يشبه موج البحر… اليامال…اليا مال…تقافزت الدهشة من عيون الصيادين؛ ليأتي مع هفهفة نسيم البحر موّال بحري شجي…اقتطعه…. صاحبه من جدران القلب، كان ذلك مدعاة لأن يصمت الجميع ويرهفون أسماعهم …راح موج البحر يرقص بنشوة مع الموّال. الدقائق تلتهم الثواني…القوارب تشقّ طريقها في عمق البحر…تأبى الأمواج إلا وأن تزيد من رقص القوارب…أخذت المووايل تشقّ فضاء البحر، على مرمى البصر وصلت القوارب… الشمس تجوب خميلة زرقاء, السحب تنظر بعين بيضاوية وهي محلقة في ارتفاع شاهق…ثمة طيور بيضاء تنساب في الأجواء…تنقض من علو نحو البحر لتلتهم فريستها التي تتلوى بين مناقيرها القوية.
البحر زاد من صفاقته…عينا الغواص تسمّرت في قاع البحر لعلّه يرى تلك اللؤلؤة البيضاء التي نسجها في خياله…أخذ الغواص نفسًا طويلًا…رطوبة لذيذة تملأ جوفه وراح يغني. لم يعد أمامه سوى ماء البحر المالح وشواط ترسلها الشمس, ورفقاء دربه الذين أحرقت الشمس جلودهم، بعد أن أقف أنفه قذف بجسده في عرض البحر. كانت الأمواج تداعب بعنف جسد القارب تيار الهواء الساخن يتزايد…قطرات مالحة تنزلق من جبين الغواص.
الفرحة والخوف، الأمل والرجاء، تحتبس داخل صدره, وكان يتوعّد بأن يقدم صيده اليوم لتلك المرأة التي أودعها في حشاشة قلبه وطفله الذي يفيض حبًا.
الشمس مالت عن سمت الرأس…وراحت تعدو نحو الشاطىء البعيد…الساعات تلتهم الدقائق…ملاءة شفّافة ذهبية اللون بدأت تغازل السماء…تزداد تألقًا مع مرور الوقت, فجأة احتدّت الأمواج وأباحت عن ثورة غضب عارمة، وراحت تضرب رصيف الشاطئ بعنف لتتناثر المياه المالحة كالبلّور على رمال الشاطئ…أما القوارب فكانت تسير وفق أهواء الرياح…تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار…تسمّرت عينا الغواص بالشاطىء البعيد…خيط رفيع تبدى…بعد هنيهة التفت نحو رفيقه الذي جحظت عيناه وقال: يوم ليس ككل الأيام…يوم يطوي في جوفه أهوال.
أخرج زفرات مكتومة في صدره؛ لينكص النظر مرة أخرى على الشاطئ البعيد…انهمك في غرف الماء الذي يقذفه البحر الهائج في جوف القارب، تزداد كميات أخرى…البحر لا يعرف لغة الهدوء فقط بل يتقن لغة العنف, إذ أخذت العواصف تشتدّ والأمواج تتزايد، وأصبح القارب كصندوق خشبي صغير تتقاذفه الأمواج.