كنت عائدًا من العمل بالأمس، قرابة الحادية عشر صباحًا، وفي أحد الشوارع الرئيسة للحيّ الذي أقطنه كان هناك سيارتان تقفان في منتصف الشارع بشكل متوازٍ، وذلك قريبًا من مدرسة البنات المتوسطة، وليس أمام الباب مباشرة بل قبله بعدة أمتار، وفي الجهة الأخرى، كانت إحداهما تقف في أقصى المسار الأيسر والأخرى بجوارها.
كان واضحًا لأي عابر أنهما لاينتظران خروج طالبات ما، لأنه ليس وقت خروج الطالبات أولًا، كما أن وقوف السيارات للانتظار لاتتم بهذا الشكل، وكانوا يتحدثون بضحك مسموع وهم في سياراتهم.
كان هذا السلوك مستفزًّا لكل من سيقود سيارته مارًا من هذا الطريق، بكلّ ماتعنيه هذه الكلمة من معانٍ، بل ولكل دورية أمن أو مرور، فيما لو صادف وإن مرّت في هذا الوقت من هذا الطريق.
وبالتالي فهو مستفزّ بحدّ كبير لي، مما كان سيجعلني أتصرّف تصرفًا يتوقّعه الجميع، ولربّما سيفعله الكثير.
تُرى: كيف كان سيتصرّف أحدكم لو رأى هذا السلوك ؟!
لكل واحد منكم حقّ الإجابة وحقّ التصرّف بما يراه صحيحًا ومناسبًا..
اقتربت بسيارتي أكثر، فلاحظت أن المسار الأيمن المتبقّي من الطريق لازال يسمح -بالكاد- بمرور سيارة، فتقدمتُ رويدًا رويدًا حتى حاذتْ سيارتي السيارتين تمامًا، ونظرتُ بعجالة سريعة جدًا، فرأيت أن السيارة الأولى بها شابان يبدو من مظهرهما أنهما في المرحلة الأخيرة من الثانوية، وفي السيارة الأخرى شاب يقود السيارة ليس بعيدا عن سنّهما ولا مظهرهما من حيث طول الشعر المنكوش، والملابس الرياضية الغريبة، مغامرًا بهذا التوقّف، حيث لايمكن التنبؤ بما سيفعلون أو بما سيقولون !
حينما توقفت: لم أنظر إليهم مباشرة، بل أخرجت الجوال كأنني منشغل به، وأرخيتُ زجاج السيارة قليلًا كي أسمع ماسيقولون، فيما لو تكلّموا، كما توقّعت !
هنا: قال “كبيرهم” بصوت عالٍ كيما أسمعه، لأنه كان في أقصى اليسار” : – (ليه ياعمّي، أيش سوينا لك عشان تزعل منّا)؟!
“وحتى طريقة الكلام هنا استفزازية”.
رددت بكل برود وهدوء، لم أعهده من نفسي، ويداي تلوحان في الهواء بما يوحي بعلامات الاستغراب: – وماذا فعلت أنا كي تقول لي هذا الكلام ؟!
هنا تبّرع قائد السيارة المجاورة بالإجابة: – أنت تقف خطأ في الطريق ياعمّ !
وسانده الراكب الآخر بهز رأسه، بينما سانده القائد الأول، الذي يبدو من مظهره وجسمه المتضخم أنه “الزعيم”، بذات الصوت الأجش المرتفع : (إي والله صحيح) !
رددتُ بذات الهدوء: – (سبحان الله ذحين أنا اللي ماسك أقصى اليمين وواقف صح، صرت أنا الغلطان) !
هنا مرّت لحظة قصيرة من الوجوم، ثم أجاب “كبيرهم”: – (والله كلامك صح ياعم، نحنا كلّنا غلطانين، وحقّك علينا).
لم أشعِرُهم لحظتها بمشاعر انتصار الأسلوب أو المبدأ، بل رفعت إبهامي قائلًا وأنا أبتسم: وصلت الرسالة؟
قالوا كلّهم وهم يرفعون إبهاماتهم معًا: نعم وصلت.. وصلت .. ونحن آسفين).
أعدت ذات الابتسامة في وجوههم، بل بصورة أكبر، وودّعتهم وهم ينصرفون بسياراتهم قائلًا لهم: أستودعكم الله الذي لاتضيع ودائعه.
وابتسمت في داخلي ابتسامة الرضا لنجاح ماكنت أعدف إليه بحمد الله وتوفيقه.
تُرى: كم نحن بحاجة إلى تغيير تصرفاتنا والخطاب الوعظي المتكررفي الكثير من “توجهياتنا” التي نريد أن نمليها على أمثال هؤلاء الشباب وتصرفاتهم في الحدائق والأماكن العامة والمنتزهات والأسواق والشوارع والطرقات ؟!
في جيل “النت”، وشراكة الوسائل الكثيرة في التربية، وتغيّر الكثير من الطبائع والسلوكيات والتصرّفات، نحتاج إلى أساليب أكثر بساطة، ورسائل أسرع وصولًا وتأثيرًا..
نحتاج إلى أساليب ناجحة ناجعة مؤثرة بإذن الله.
فهل وصلت الرسالة؟.