الفهم عملية عقلية تتم بدعم من الحواس؛ وذلك عندما تقوم واحدة منها أو أكثر بنقل ما يصلها إلى الدماغ بواسطة شبكة معقدة من الأعصاب، وهناك تتم المعالجة ثمّ يتسلمها العقل الباطن على شكل مادة خام فيحولها إلى صور أو أصوات أو روائح أو ملامس أو مذاق ممزوجة بما يصاحبها من مشاعر وانفعالات صاحبتها أثناء عملية الإدخال، ثمّ يقيّمها ويصنّفها بطريقة مذهلة ثمّ يدفعها إلى الأرشيف الذي يتلقاها بدوره فيخزنها على ما يشبه الرفوف (مجازًا) لتكون قيد الاستدعاء عند الحاجة، وكلما كبر حجم هذا الأرشيف وتنوع محتواه وتعددت منابعه كان ذلك أدعى لسرعة الفهم ورجاحة العقل، ومن أسباب ذلك كثرة التجارب الحياتية وتنوع مصادر المعلومة ونوعية المعرفة لكنّ الكثرة في المعلومات لا تزيد من الفهم كما يظن البعض، كما أن شعور الشخص بضرورة تحقيق مستوى عالٍ من الفهم سبب رئيس في بلوغه، ولنا في العلماء والناجحين خير مثال.
كذلك من الأسباب المعينة على جودة الفهم والقراءة بأنواعها، والاستماع، والإنصات، والسفر، ومشاهدة الصور، والاطلاع على تجارب الأمم والشعوب جماعات كانوا أو أفرادًا، والعقل في بنيته يحتاج إلى الأشياء المجردة التي يعتمد فهمها على الخيال والتخيل لكي يبثّ فيها الروح وتصبح حيّة وتتحقق نتائج منطقية؛ لذا فالخيال هو مادة العقل وروحه.
ونحن عندما نصغي إلى شخص يتحدث عن تجربة ما فإن عقلنا يستدعي كل التجارب السابقة المشابهة المخزونة في عقلنا الذي يقوم بالتحليل والربط، ومن ثم الاستنتاج وبذلك يحصل الفهم وكل ذلك يحدث في جزء من مائة ألف من الثانية، وكما ذكرت فبحسب نوعية أرشيفك سيتحدد مستوى فهمك، ولا يقف الأمر عند هذا بل سيتحدد معه تفاعلك مع ذاك الشخص وحديثه وردود أفعالك تجاهه.
هذا يفسر لنا جانبًا من أسباب الحكم على الآخر، فنقول عن شخص ما بأنّه صادق وآخر كاذب، وشخص تود سماعه طيلة الوقت وآخر بودك أن تقفل فمه قبل أن يتفوه بكلمة، حتى في المجال الإعلامي هناك من تعيد الفيديو مرات ومرات دون أن يتطرق إليك الملل، بينما تضغط بسرعة على زر جهاز التحكم الذي بيدك قبل أن يباشر الحديث.
إنّنا نلمس ذلك في الحوارات الفكرية أيضًا فبعضها يشبه صراع الديكة حتى إنّ المستمع العادي يخرج منها بخيبة أمل لِما أبداه المتحاورون من مجانبة العقل والمنطق وانزلاقهم في تفاهات وأمور سطحية لا تليق بهم كرموز ثقافية، حتى إنّه قدّ يقال: إذا كان هذا هو حال من يمثلون طليعة المجتمع فكيف بالعامة منه؟
في الحقيقة فإنّنا نحتاج إلى ما هو أبعد من الفهم ألا وهو التّفهم خصوصًا إذا كان هناك خلاف مع الآخر في أيّ شأنٍ من شؤون الحياة إذ إنّه يمكن التوقف عند فهم الآخر وعدم المتابعة معه، ولكن ما هو أسمى من ذلك أن نتفهم واقعه ودوافعه، وإن لم نقره عليها أو نقتنع بها فليس معنى أن أستمع إليك وأتفهمك أنني معك أو ضدك، ولكن بقاؤنا على جانبين متوازيين أمر في غاية الأهمية من أجل تحرير الفكر من التبعية الفكرية التي تهدد استقلالية الفكر كقيمة ضرورية لحماية إنسانية الإنسان.
لقدْ أصبح من السهل معرفة الخلفية الثقافية للشخص ونوع بيئته وآثارها النفسية والعقلية على شخصيته من خلال ما يكتب أو من سلوكه وردود أفعاله أثناء التحاور معه.
من هذا المنطلق أهيب بالآباء (صيغة الجمع للأم والأب) أن يعتنوا بنوعية بيئة أولادهم المعرفية فلا يكتفوا بتلقينهم المعلومات المجردة من الكتب أو المحاضرات فحسب، بل يجب أن يحرصوا على التنويع في مصادر المعرفة وطرق الحصول عليها بالبحث والتجربة والحوار ومجالسة المتخصصين والمشاركة، ولو بالحضور في الأنشطة التي تحث العقل على التفكير خارج المألوف حينئذٍ ستتسع أفهامهم، وتتقد أذهانهم، وتسمو نفوسهم، وتصبح عقولهم حرّة طليقة فلا يخشون الجهر بآرائهم، وسيؤمنون بأنّ الاختلاف هو سرّ جمال الحياة، ومتعة التعايش مع الكون وما احتواه.
أتمنى أن يصل هذا الموضع إلى أذان صاغية