استمعنا إلى تصريح أحد المسؤولين بوزارة الداخلية ليلة الأحد 11/6/1440هـ الذي نفى ما تم تداوله من مزاعم عن تطبيق خدمات “أبشر”، بكونه أداة رقابية؛ وذلك في محاولة لتعطيل الاستفادة منه، ورفض المصدر المحاولات الرامية لتسييس الاستخدام النظامي لأدوات التقنية. ويأتي هذا النفي في سياق وأد الشائعة وإماتتها في وقتها.
خزائن التاريخ حافلة بالكثير من الحوادث في باب الشائعة، كان أبرز ما فيها من دوافع ذلك الوقت، التغلب على الخصوم وتصفية أثرهم الفكري والفقهي، وكثيرًا ما يلجأ بعض من لا ورع لهم في إدارة خلافاتهم الفقهية أو الفكرية إلى بث الشائعة عن المخالف بقصد تأليب الناس عليه وتجفيلهم من علمه وفكره. نرى هذا فيما ابتلي به الإمام الطبري -رحمه الله- من إشاعات كاذبة وملفقة؛ حيث قال عنه ابن كثير -رحمه الله-: “ومن الجهلة من رماه بالإلحاد وحاشاه من ذلك كله… وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم والرفض” هذا الفقيه الظاهري -غفر الله له – عندما أعيته الحجة، وقعدت به الأدلة عن بلوغ منزلة ابن جرير العلمية لجأ إلى حرب الشائعة، فقال فيه من شنيع الأقوال ما جعل الجهلة يقعون فيه إلى الحد الذي هددوه في أمن نفسه، فما كان رضي الله عنه يخرج من بيته خشية على ذاته من الفتك، بل ذكرت الروايات أنه دفن ليلًا يوم وفاته. (البداية والنهاية:11/175)
وبالتزامن مع هذا التصريح الرشيد أجد الفرصة مواتية للحديث عن الشائعة التي اتخذت أشكالًا وصورًا شتى على مر الأزمان والعصور؛ لتصبح اليوم إحدى أدوات الحرب، ومن الباحثين من يدرجها تحت “الجيل الرابع” من الحروب، الذي تمثل فيه الشائعة أحد الأساليب الأساسية. فترويجها بهذا الأسلوب لا يتم بصورة عبثية أو بشكل تقليدي، وإنما قد يصل الأمر لأن تتولى أجهزة دولة ما ترويج الشائعات عن النظام السياسي لدولة ما للوصول إلى تحقيق غرض معين يخدم الدولة التي روجت لهذه الإشاعة، ومن شأن هذا أن يلحق الأذى الجسيم بأصعدة ذلك البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهذا النوع من الأساليب أكثر خطرًا على أمن الدول، وأشد فتكًا باستقرارها.
بل إن الأمر اللافت للنظر أن الشائعة استفادت أكثر من أي وقت مضى من وسائل الاتصال والتواصل المعلوماتي مثلما يحدث عند تداولها داخل أروقة المجتمعات المحلية؛ حيث يمكن للشائعة أن تحدث شرخًا في الأمن والسلام الاجتماعي، فهي تعود عليه غالبًا بالضرر؛ لتثير بين المجتمع الواحد أنواعًا من الفتن تدفع به إلى عديد من المحن، وأقرب حدث مر بالمنطقة من حولنا ما يطلق عليه تلبيسًا بأحداث “الربيع العربي”، وهو “الخراب” باسمه ورسمه، فإننا نرى كيف استغل توظيف الشائعة في جر الويلات والدمار والضياع والجوع والخوف، ولا زالت تكتوي المنطقة بناره حتى اللحظة منذ اندلاعها في ديسمبر 2010.
تسري الشائعة وينشط حراكها خلال “أوقات توقع الخطر”، وهي أوقات الحروب والأزمات؛ لأن الناس بعفويتهم يتوقعون حدوث كل ما هو شر، وهذا هو سبب انتشارها؛ لأن الناس في هذا التوقيت، حينما يسمعون أي خبر يذيعونه فيما بينهم ولو لم يتحققوا من وقوعه لحاجتهم إلى البقاء وإلى الأمن، والشعور الطمأنينة، ولحاجتهم لمن يعينهم في اتخاذ القرار وفهم ما يدور في العالم من حولهم.
الخطير في الأمر أن الشائعات تنتشر بسهولة، ليس لتزايد مرتادي وسائل التواصل فقط، وإنما لأن الأحداث والتطورات المتصاعدة في مواطن الصراعات والفتن تجعل من الأكاذيب بيئة خصبة للنمو والتكاثر أيضًا، خاصة إذا كانت تستهدف الساسة والعلماء وقادة الفكر والرأي، وتستهدف الشأن الاقتصادي والصحي، وغيرها من الشؤون التي لا تنفصل عن الأمور الحياتية للمجتمع.
إذا كان القانون المقارن عدّ الشائعة من جرائم العدوان على أمن الدولة الداخلي والخارجي، نظرًا لخطورة المصلحة المحمية في جرائم أمن الدولة، فإن التشريع الجنائي الإسلامي حذر من خطر الشائعة على الأمن والاستقرار المؤذنة بالشقاق والنزاع، وأخذً موقفًا داعمًا للتشريع في تجريم ومعاقبة صانعها من أجل المحافظة على حالة التوافق الأمني والاجتماعي داخل الوطن. قال تعالى: (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) النساء-112.
إن من نعم الله علينا في المملكة العربية السعودية نعمة التلاحم والترابط والشعور الواحد، فمن يقلب نظره في مواقع التواصل الاجتماعي يشعر بوجود سد منيع مشيد بأيدي أبناء الوطن في مواجهة أي عدوان محتمل مستعينين بالله، ومستحضرين العقل والحكمة، مما كان له حسن العاقبة والأثر السريع في محاصرة الشائعة وتحييد خطرها وتجفيف مصدرها.
دكتوراة في الشريعة والقانون