ما أشبه الليلة بالبارحة!، وما أجمل ابن خلدون وهو يقدم لنا نظريته الشهيرة”التاريخ يعيد نفسه”! في مقدمته الشهيرة، وما وجه الشبه بين أميري عسير في حالتين وهذه النظرية ؟….. قبل سبع وعشرين عامًا كنت مع المواكبين لزيارة الأمير خالد الفيصل لمحافظات شرق منطقة عسير في ليال شتاء قارس.
أمير منطقة عسير المثقف المتقد حماسًا وعطاءً تركي بن طلال بن عبد العزيز أعاد المشهد ذاته عبر نظرية ابن خلدون، وعبر نظرية الانصهار، ومن ذات المكان وفي نفس المخيم الذي اختاره الأمير خالد الفيصل قبل أكثر من ربع قرن.
وفي هذه الجولة للأمير تركي كان الإنسان هو محورالانصهار الوطني، وكانت اللقاءات مثيرة للدهشة؛حيث سعى الأمير تركي لترسيخ نظرية الانصهار الوطني التي بدأها مؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز –طيب الله ثراه– عبر “الكتاب والبيع”، (وثق أبعاد هذه النظرية البنائية العالم الأمريكي كارل ديوتش المتخصص في السياسة الدولية) بمهارة فائقة.
من أول لحظة تشرفنا بالجلوس مع سموه في الخيمة التي أقيمت بعرين قحطان؛ وبحضور عدد من المشايخ والأعيان رسم الأمير تركي استراتيجية عمل واضحة المعالم بين فيها رغبته في الأداء العملي، وتفعيل ورش اللقاءات المتنوعة، واعتذاره الشديد عن جميع الدعوات، اتضحت معالم الاستراتيجية التي رسمها من خلال حرصه على الالتقاء بمشايخ القبائل والأعيان والمواطنين، والاستماع إلى متطلباتهم واحتياجاتهم، والوقوف على احتياجات المحافظاتمن خلال الاجتماع مع المسؤولين من مديري الإدارات الحكومية، وأعضاء المجلسين المحلي والبلدي، وتعزيز عطاءات رواد ورائدات الأعمال،ومبـادرات الشباب.
في أول محطة ميدانية كان تركيز الأمير تركي منصبًا على مسح الصورة السلبية وخاصة في مركز الأمواه الذي تأسس 1376هـ، ومنحهم الثقة لمواكبة الحراك البنائي المستقبلي (سميت «الأمواه» بهذا الاسم لبئر قديمة كانت المصدر الوحيد لتأمين سكان البادية بمياه الشرب على وادي أدد جد مذحج)؛ حيث اختارالأمير تركي الحوار المباشر مع طلاب متوسط وثانوية المحافظة لأنهم عدة المستقبل، وقلب أثناء الحوار المعادلة عندما انتقل من موقعه كضيف ليذهب للجلوس بين الطلاب، وطلب من بعضهم إدارة الحوار من خلال الثقة التي منحهم إياها وسط تصفيق وإعجاب الجميع، ثم استعان بخبرات شباب عسير المميزة “عادل آل عمر وعبدالله الوادعي“؛ ليعلن عن إنشاء فرق من شباب المحافظة في المناشط الشبابية والتطوعية لبداية تغيير الفكر سلبي إلى إيجابي، والاستفادة من هذه الطاقات، ووعد بخطوات متسارعة وأفكار لاحقة لتحويل مركز الأمواه إلى مصنع للرجال.
نفس الاستراتيجية نفذها الأمير تركي خلال زيارته لمحافظة طريب، ثم محافظة تثليث، وأخيرًا محافظة بيشة، وحرص على زيارة “مركز النمو بالقيرة” الذي يترجم فلسفة نظرية “الانصهار“ من عهد المؤسس لهذا الكيان الكبير، وسار عليها أبناؤه البررة الملوك والأمراء.
الأمير تركي لم ينسَ الزيارات الإنسانية، ولم ينسَالواجبات والمسؤوليات، وكسر الحواجز بينه وبين المواطنين “كلمته للمواطنين في تثليث شاهد عصر عندما قال لهم لن أغادر حتى أقابلكم جميعًا” استمع للمشايخ والأعيان والمسؤولين, والتقى بالرجال والنساء، وتحاور مع الصغير قبل الكبير، وتنقل في المواقع وفق خطة اتسمت بالعمل، والجدية رافضًا إهدار الوقت في الولائم والمظاهر المبعثرة للمال والوقت، رفض حفلات البهرجة، واللوحات الترحيبية، وكان تركيزه على تروس عجلة ورشة العمل الميداني الحقيقي فقط.
الذي يهمني شخصيًا ومن خلال هذه الزيارة التي تشرفت بقراءة ما بين سطورها تلك الشخصية الثقافية العالية للأمير تركي، وحرصه على المسامرات المفيدة، وكان من ضمنها توقفه عند سرد تاريخي قدمه الشيخ ملوح أبو جلبة؛ حيث قام الأمير تركي فور سماعه للسرد التاريخي بالاتصال بنفسه على رموز تاريخية للتأكد من صحة المعلومة (حاولت المداخلة ولم أنجح في إيصال الفكرة مستشهدًا بكتاب تركي الماضي، وكتاب تاريخ الملك سعود الوثيقة والحقيقة لمؤلفه الدكتور سلمان بن سعود بن عبد العزيز)
فالشيخ ملوح أبو جلبة كان يتحدث بكلام يغلب عليه الصيغة التعبيرية الشعبية دون توثيق بحثي أكاديمي، ومعلوماته صحيحة 100% ومغلوطةتوثيقيًا؛ حيث ذكر أن الأحداث كانت 1351هـ،وقال توقفت الحروب بعد توحيد البلاد، وهذا غير صحيح حيث كانت أحداث اليمن عام 1352هـ أي بعد توحيد المملكة وانتهت باتفاقية الطائف 1353هـ، وقد بيّن الدكتور فهد السماري وهو أحد الرود في رده على استفسار الأمير أن حملة الملك فيصل كانت 1353هـ وهذه معلومة صحيحة، ولكنها مبنية على سؤال الأمير تركي عن فيصل بن عبد العزيز، وليس عن حملة سعود بن عبد العزيز كما ورد على لسان أبو جلبة، وهنا نقطة خلاف تحتاج للتوضيح لاحقاً.
من الصور الجميلة التي خرجت بها في هذه الجولة ودون أن يشعر بها أغلب المرافقين للأمير في جولته حرص سموه على السير في الناس بالإصلاح، وهو أهم الأعمال الجليلة فقد حاول في أول قضية عتق رقبة وتعذر ذلك، ونجحت مساعيه في عتق رقبتين من حد السيف …. يقول صفوة البشر محمد –صلى الله عليه وسلم– “لئن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين”
الناس بالناس مادام الحياءُ بهمُ
والسعد لا شك تارات وهباتُ
وأفضل الناس ما بين الورى رجلُ
تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ
الشيء السلبي الذي لمسته وعشته بنفسي هو ذلك العمل الشاق المربك والمتعب ذهنيًا وبدنيًا للأمير؛ حيث يبدأ يومه بعد صلاة الفجر مباشرةً ويواصل ركضه وزياراته واجتماعاته ومناقشاته ومسامراته إلى منتصف الليل، وقد سألت أحد مرافقيه فقال هذا ديدنه، وقال آخر منذ عرفته قبل خمس وعشرين عامًا وهو يسير بنفس الإيقاع، “لنفسك عليك حق”، وحقيقة فهذه أداءات عملية مخيفة تستمر حوالي ست عشرة ساعة يوميًا، وعليكم الحساب أما أنا فقد تعبت وذُهلت و”توبه”.
على هامش الجولة
خاتمة
أقبح الصدق ثناء المرء على نفسه، مع هذا سوف أثني على الأمير تركي لأنه من نفسي، وأقول لكم منطقة عسير مقدمة على مرحلة غير مسبوقة….. لله درك من أمير في القول، والعمل، والتعامل.
جزيت خيرا ياابا رائد فقداوفيت الرجل حقه غيرمنقوص وجزاه الله عنا وعن اهالي المنطقة كل خير وادعوالله ان تكتب له في موازين حسناته ولك بالمثل ان شاءالله
لا فض فوك و لا كُسِر قلمك يا أبا رائد. أنت مواطن حيّ و واضح الإنتماء.
سلمت