د. خالد محمد باطرفي

التقاعد .. اليوم التالي!

هل نحن على استعداد للتقاعد؟ أراهن أن معظمنا ليس مستعدًا، فكل مشغول بحياته وعمله لدرجة أنه لا يجد وقتًا للتفكير في اليوم المحتوم. وإن استعد بعضنا فمعظم خياراته أحلام لا تتفق مع الواقع.

 

نعم، يمكنك أن تحلم ببيت ثانٍ في البوسنة أو بالي، استراحة للعائلة والأصدقاء بأطراف المدينة، مزرعة أو مخيم في الصحراء، أو كابينة على البحر. ويمكنك استخدام مدخراتك للقيام برحلة حول العالم، وجولة بحرية على جزر الكاريبي، ثم إجازة طويلة في أوروبا. ولكن حتى لو تحقق لنا كل ذلك، كما سيستغرق الوقت قبل أن تنفذ أرصدتنا، ويضعف حماسنا، ونمل!

 

عندما تصل للستين، تأمل أن يمتد بك العمر بصحة وعافية لعشرين أو ثلاثين عامًا إضافية، وهذا طريق طويل، فيه الكثير من الأيام والليالي الوحيدة، والساعات والدقائق الفارغة. تجلس على مقعدك المريح تتابع الأخبار على التلفاز وتويتر والواتس اب، ترقب أحفادك في طريقهم إلى المدارس أو عودتهم منها، تشاهد الجميع يعمل وينتج .. وتشهد قاطرة الحياة، وهي تمضي إلى محطتها الأخيرة.

 

تلح عليك أسئلة مريرة: هل مازلت مفيدًا؟ منتجًا؟ ضررويًا؟ هل بت تابعًا وعالة على الآخرين؟ إلى متى سأستطيع الوقوف على قدمي بدون أن أتكأ على أحد؟ أصدقائي يغادرون المشهد واحدًا بعد الآخر، متى سيأتي علي الدور؟ وإن رحلت هل سيفتقدني أحد؟

 

عندما اقترب يوم تقاعد عبدالله، موظف الاستقبال، رأيته يتنقل من مكتب مسؤول لآخر وهو يعرض تنازلاته، بما في ذلك خفض الراتب وإلغاء المزايا. حسبت أسبابه مادية، لكنني عرفت من شؤون الموظفين أنه سيحصل على راتبه كاملًا. سألته عن السبب، فشرح لي كيف أنه تعود على العمل منذ الطفولة، لا يحب الإجازات ولا يطيق البقاء في المنزل. وأكثر ما يخيفه أن يتحول إلى حالة مستفيد، لا مفيد. وحكى لي كيف أنه حاول في آخر إجازاته أن يصلح  المكيف ولم يستطع، وجاء حفيده ليصلحه في ثواني معدودة. وسرعان ما اكتشف أن المكيف لم يكن معطلًا، ولكنه لم يحسن تشغيله. وفي يوم آخر حاول إصلاح الباب فخربه. وبعدها صار الكل يترجاه أن يطلب المساعدة عندما يحتاجها .. أو يحسب أنه يحتاجها!

 

لفت نظري أن أمين الصندوق في المطعم الأندونيسي مواطن في الستينيات من عمره، وهو أمر غير معتاد. توقعت أن يكون المالك، وصح توقعي. لماذا يعمل في موقع كهذا، نهارًا وليلًا، وباستطاعته أن يستخدم موظفًا براتب متواضع لهذه المهمة؟

 

سألته، فروي لي حكايته. صالح كان مسؤولًَا يشار له بالبنان، ومحاطًا بالزملاء والموظفين، لا يتوقف هاتفه عن الرنين، ولا يخلو مكتبه من معاملات ومراجعات، وتكاد  ساعات اليوم لا تكفي للعمل والضيوف والواجبات الاجتماعية. كان دومًا يتوق لأيام من الهدوء وليال من النوم العميق بلا هموم. وأخيرًا جاء يوم التقاعد، واحتفلت الإدارة بتوديعه. عاد إلى البيت سعيدًا ببداية إجازته الدائمة، ووجه أن تفرش حديقة منزله بكراسي، ويستعد الأبناء بأباريق الشاي والقهوة والمكسرات لاستقبال أصدقائه وزملائه.

 

في اليوم الأول لم يأتِ أحد، وفي الأيام التالية لم يزره صديق. وأخيرًا اكتفى بكرسيين أمام الفيلا لمن قد يمر صدفة من الجيران أو الأصدقاء.

 

يقول: عرفت أن الوقت قد حان للبحث عن عمل عندما أنبت زوجتي وبناتي لاستبدالهم سجادة المجلس العجمية، فنظرن إلي بدهشة بدا أنها أصبحت معتادة وهن يذكرنني بإشفاق ولطف أنني من قمت بذلك .. منذ عامين! واليوم، لدي هذا المطعم الصغير، أجلس على مدخله، أرقب الناس وألاطف الزبائن وأقرأ الصحف، وأدير العمال! وعندما أعود إلى البيت، أجد أسرتي مشتاقة لي، كما في الأيام الخوالي.  

 

عندما زرت مطعم صالح بعد فترة من الانقطاع لم أجد المطعم ولم أجده. ودعوت الله أن يكون بخير محاطًا بأسرته وأحبابه.

 

عبدالله وصالح لم يستعدا ليوم التقاعد، بعكس جيراني أثناء دراستي الجامعية في أمريكا. فأحدهما اشترى قاربًا وآخر مزرعة، وانضما إلى عدد من  المجالس الاستشارية والتعليمية وجمعيات الخدمة المدنية والأندية الرياضية، بمقابل أو بدون. حياتهما كانت حافلة لدرجة أن أحدهما أراد أن يحتفل بوداعي في نهاية رحلتي الدراسية فلم يجد موعدًا في أجندته إلا بعد عشرة أيام.

 

أسأل اليوم نفسي، ماذا سأفعل عندما أتقاعد؟ هل سأقتدي بالشيخ سليمان الراجحي الذي وصف حال المتقاعد بمن “مات قاعد” وأواصل المشوار حتى النهاية؟ هل سأجرب الحلول الأمريكية وأستمتع بأطول إجازة في حياتي؟ أم أستسلم لأقدار الحياة وأمضي مع رياحها لعلني أرتاح؟

 

ولماذا يجب أن ينتهي الأمر بهذه الطريقة؟ هل لأننا لا نخطط للمستقبل؟ هل لأن مؤسساتنا الحكومية والخاصة والمدنية لا تستفيد من خبرات المتقاعدين؟ أم لأننا نميل للاحتفاء بالشباب، النشط والمنتج بينما نحجم عن الشيوخ مهما كانت خبرتهم وحكمتهم؟

 

هل أنت مستعد ليوم التقاعد؟ كيف؟

شاركونا بأفكاركم وآرائكم.

Related Articles

One Comment

  1. السلام عليكم
    شكرا لكم سيدي الفاضل على هذا المقال المنعش بالنسبة لموضوع التقاعد انه لا يتم الاستعانة بخبراتك على الرغم من امتلاك الموارد البشرية لكافة ارقام التواصل ويتم الاستعانة ببيوت الخبرة ، اليس هذا الامر مزعج؟؟ وما يريق دمك غضبا وقلقا حينما يتم إحالة للتقاعد لا لسبب فقط لمصلحة العمل دون سابق انذار
    الحياة صعبة ولكن يجب ان نحيا فيها بالطول او بالعرض
    شكرا لكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button