(أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..) تمتمت السبابة بصوت متهدج ونفس متقطع.. قبل أن ينقطع ذاك النفس الذي يتردد في صدر صاحبها و يخفت ذاك الصوت الذي يترك الحنجرة ليسكن في الأطراف طاعة وخضوعا..
تحكي السبابة قصتها فتقول:
(كان يوم جمعة.. يوم جمعة عادي.. حيث يصحو مالكي الذي أنا جزء من يده و أحد أصابعه.. يصحو صباحا باكرا كل جمعة نصلي الفجر سويا و نبقى في مجلسنا إلى صلاة الإشراق.. وأتشرف برفعه لي في صلاته في التشهد وأسعد بأن نقلب له نحن الأصابع الخمس صفحات المصحف .. ياله من صوت رخيم يترنم بقراءة القرآن.. نصغي ووجداننا يفيض حبورا وسعادة ورضا بتغلغل تأثير القرآن إلى كل خلية في كياني الصغير وفي باقي جسد مالكنا.. فنحن – أنا وباقي أعضاء الجسد- نعمل تحت إمرة هذا الرجل البالغ من العمر ستين عاما، نفعل ما يمليه علينا و ننفذ ما يريد..
مسلم لطيف نسعد معه بحفاظه على صلاته ومواظبته على تلاوة القرآن و الذكر.. فيلهج صديقنا اللسان بعبارات الحمد و التسبيح وتترنم أختنا الحنجرة بترتيل القرآن وتجويده.. و تسارع قدماه نهبا للخطى باتجاه المسجد لصلاة الجماعة.. ويعيش مالكنا وصاحبنا في مدينة من مدن نيوزيلندا منذ ربع قرن.. كان تاجرا سعوديا و تنقل في عدد من الدول قبل أن يستقر في نيوزيلندا.. رجل هادئ الطبع.. لطيف المحيا.. محظوظون أن خلقنا في كنفه و تربينا في جسده..
قرأ لسانه سورة الكهف كعادته.. وتعهدها بقلبه وتأثرنا بقصة أصحاب الكهف و قصة موسى و الخضر.. خبرة نمر بها كل جمعة….
و اليوم هو الجمعة الخامس عشر من مارس.. دخل صاحبنا دورة المياه فاغتسل و توضأ وخرج بنا إلى حجرته فلبس ثيابا نظيفة وتعطر إيذانا لبدء رحلة الإيمان الأسبوعية إلى مسجد المدينة.. يسير بنا و اللسان سفيرنا في الصلاة على حبيبنا رسول الله.. وقدماه تتسارع بالخطى نحو المسجد و يستخدمني مع بقية اخوتي في التسبيح و الذكر… وصلنا وصاحبنا إلى المسجد.. وبدأ الإمام خطبة الجمعة وكان الشعور بالرضا و السكينة يعم المصلين في يوم ينتظرونه من أسبوع إلى آخر.. وساعد على ذلك هدوء تلك المدينة في نيوزيلندا التي ظلت وجهة جميلة و هادئة للمهاجرين والسواح على مدى سنوات طويلة..
و مالبثت صديقتي الأذن أن التقطت صوت طلقات من مسافة ليست ببعيدة.. لم يصدق العقل وهو رئيسنا التنفيذي إمكانية أن تكون هذه الطلقات واقعا بل ظنها صوتا قادما من جهاز أو برنامج أو لعبة من الألعاب الإلكترونية.. و زاد الصوت وضوحا وبدأ زعيمنا الأكبر القلب يضخ الدم بشكل أسرع وتسارع تدفق الادرينالين مختلطا بدم الرجل المالك وارتفعت حالة الخوف و القلق في قلبه وصار يلويني و يحركني في اضطراب و لسانه لايفتر عن ذكر الله بحثا عن سكينة يصيبها و طمأنينة يجدها في ذاك الموقف العصيب.. وفجأة تمايل جسد بقرب مالكنا متأثرا بطلق ناري مباشر وصارت العينان في حالة صدمة مروعة بعد أن ظهر رجل يحمل رشاشا في يده يقتل المصلين بشكل عشوائي ويبيدهم إبادة سريعة و همجية لاتخطر ببال بشر.. وظل مالكي يلهج بالاستعانة بالله و مالبث أن تفجر نسيجه و عضلاته برصاصة اخترقت جنبه الأيمن و استقرت فيه وكنت أنا بعيدة عن محيط وسطه و اجتاحني الخوف و الهلع و أيقنت أنها النهاية… حيث سنرقد جميعا في جسد هذا الرجل الطيب جثة هامدة بعد دقائق و لاريب.. فهذا هجوم مسلح بربري إرهابي على المسجد ويبدو أن السفاح لن يهدأ إلا بتصفية الجميع.. وجاءت الرصاصة الثانية تكسر كل حواجز الجسد فاخترقته بلا رحمة ثم الثالثة و الرابعة.. و.. ظن وظننا أنه الفراق.. وسقطنا جميعا على أرض المسجد و العيون قد دارت في المحاجر والقلب ينتظر لحظة التوقف و السكون والعقل يستعرض شريطا طويلا يحوي ذاكرة ستين عاما منذ ولادة من يملكنا مرورا بطفولته وشبابه و عمله وسفره واستقراره في هذه الدولة.. تعاقبت الصور وصاحبنا يئن وصوته بدأ في الخفوت وجميع وظائفه الحيوية صائرة إلى تراجع و هلاك.. ولحقني ما أصاب أقاربي وعشيرتي.. ارتخى جسدي و خارت قواي.. وجاء من يحملنا جميعا على لوح متنقل لسيارة الإسعاف.. ووجدت ذاك الأمر العاجل من عقل المالك وقلبه .. أمرني بالنهوض والانتصاب.. وماكان مني إلا الامتثال فما كنت لأخذل الرجل في دقائقنا الأخيرة قبل الرحيل.. كما لم أخذله عمرا.. فجمعت قوتي و لممت شتاتي ووقفت بعد لأي و انتصبت بشموخ.. علمت ماذا يبغي فقد كان يريد نطق الشهادتين ووقفنا وقفة رجل واحد.. كتيبة رائعة، اللسان والشفتان ينطقونها قولا و القلب ينزفها تعبدا و الجسد يصرخ بها تقربا وانا أقف بعزة أستقيها من القول المجيد “اشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده ورسوله” وبقيت واقفا فقد اجتاحتني قوة لم أعهدها من قبل.. رقد كل الجسد وبقيت أنا شامخا.. وليست بغريبة ولامستبعدة فقد توجهت وقوفا في صلاته و تشهده وقلبت صفحات مصحفه وقدمت الصدقات والهبات بناء على أمره ونسجت المساعدات لتفريج كربة الغير تنفيذا لتوجيهاته.. قضينا الستين عاما هكذا فكيف نختمها إلا بما هو أجمل.. سأظل واقفا حاملا و مرددا للشهادتين إلى أن ينفد أثر الروح و تنسحب من آخر خلية في كياني.. وبالفعل وصلنا إلى المشفى وشعرت بأن النهاية قد تحتمت.. فوددت لو جلست فقد بدأت الحياة في التلاشي لكن عقلنا الملئ بحب الله سلمنا الأمر وانتهى دوره فمات ثم أخذ كل جزء يلفظ نفسه الاخير تباعا حتى إذا لم يبق غيري ارتخيت موتا و لم ارتخ قبلها ذلا وتخاذلا.. قمت بواجبي حبا في الله وفي مالكي من بعده حتى النهاية.. على رجاء أن نشهد جميعا لصالح صاحبنا يوم العرض ويشهد هو لنا بحسن الاستجابة..)
انتهت الحكاية..
وحكت السبابة قصة صاحبها.. رجل يدعى”محسن الحربي” حمل جزءا من اسمه عاش محسنا و مات محسنا على الشهادة.. قتل غدرا برصاص حاقد.. لعل الدنيا تقف و تناصره وتأخذ بثأره كما وقفت تلك السبابة و لم تسقط إلا بنفاد الروح..
رحم الله محسنا و من معه.. و أجارنا من كل قاتل معربد…
د. فاطمة عاشور..
دكتورتنا فاطمة؛ اسعدتينا بحبكة يراعك؛ وجميل فكرك في عرض فعل يومي ننفذه 5 مرات… لكن جاذبية قصتك وكاني بها ملمحا جديدا… ثم اصحو من حلمي الواوقعي لاجد نفسي امام ابداع جميل نفعله جميعا ويبقي الخشوع لله اكمل والنظر الي ان الدعاء مخ العبادة لكم ولنا ولكل امة محمد وغيرهم لان يهديهم الله قبل الموت وان يرحم شهداءنا وامواتنا؛ وتسلمين. :المستشار التربوي والاسري د.محمد احمد المنشى