ليسمح لي الدكتور (عمرو شريف) باقتباس عنوان كتابه لمقالي الذي سأحاول فيه الإبحار في أعماق البوح الذي يتسابق عليه الناس، ولكن كلًا على طريقته، وبحسب أسلوبه.. فهذا العالم واسع المدى فضفاض بالمعاني الواسعة.
مهما وصل الناس من مكانة مجتمعية، أو مناصب عالية؛ فانهم يحتاجون إلى (البوح) بصغيرهم وكبيرهم بغنيهم وفقيرهم، ويبحثون من خلاله عن تحقيق ذواتهم عبر الحديث عنهم أو عن أبنائهم، وعن إنجازاتهم وإخفاقاتهم، وعن أفكارهم وقراءاتهم، وعن نصوصهم واقتباساتهم، وعن فشلهم ونجاحهم أو خبراتهم، وعن طموحاتهم أو واقعهم.
يتحدثون عن قصصهم السعيدة والحزينة، لا يهمهم -في ذلك- مضمون الحديث بقدر ما يهمهم سريان البوح الخارج من أفواههم المرهقة، والقادم من أبعد الخلايا في عقولهم الصاخبة، والمتدفق من أعماق قلوبهم المرهفة.. فلم تعد ذواتهم قادرة على حمل المزيد من الصمت، ولم تعد أجسادهم تتحمل كبت المزيد من الأسرار.
فلقد حان للحكايات أن تُسرد، وحان للكلمات أن تُقال، وحان للسرد أن ينزف بوحًا، حتى لو قال البعض: (أكذب الحديث هو الحديث عن النفس) فسأقول له: البوح هو جسرنا نحو الآخرين.. فأما أن نثقلهم به، أو يثقلونا به، لسان حالنا جميعًا: (الناس للناس من عرب وحاضرة؛ بعض لبعض وإن لم يشعروا الخدم) فنحن نخدمهم من خلال استماعنا لبوحهم المليء بالحكايات التي تجعلهم يحققون معانيهم في الحياة.
ولكيلا تتساءل عن مدى أهمية ذلك؛ عليك فقط النظر في وجوههم وهم يتحدثون لترى إشراقة البوح تتهلل عليها، تأملهم بعد ساعة أو ساعتين قضوها معك في الحديث لترى أن أجسادهم قد أصبحت خفيفة، وملامحهم غدت وضاءة بهية، حتى صوت ضحكاتهم تجده مختلفًا.. حقًا.. كل شيء فيهم يصبح وهاجًا بالسعادة؛ لأن “أناهم العميقة تحدثت عن نفسها”، وباحت بسلسلة طويلة من الكلمات جعلتها تضع بصماتها في أذن السامع، وقلب المتلقي بكل شغف وحيوية وحياة.
حكمة المقال:
إذا ارتاحت لك النفوس باحت لك بكل شيء، وإذا عرفت كيف تطرح الأسئلة التي تعزف على أوتار القلب فسينسى العقل نفسه! ليبوح لك الناس بكل شيء، حتى لو كنت غريبًا تقف في محطة سفر عابرة.