د. خالد محمد باطرفي

كارثة نيوزلندا .. وإعلام الكراهية

عندما ينشر خبر هذه الأيام، ينتقل من طرف العالم إلى بقية الأطراف خلال دقائق. على أن الإرهابي الأسترالي الذي هاجم مسجدين في كرايستشيرش بنيوزيلندا، خلال صلاة الجمعة الماضية، لم ينتظر كل هذا الوقت، فقد بث جريمته حية على الهواء!

وكذا كانت استجابة العالم بنفس السرعة. إدارة الفيس بوك تأخرت قليلا في حذف مقطع الفيديو من حساب الإرهابي، إلا أنها عوضت ذلك بحذف مليون ونصف مقطع من نفس النوع، لاحقًا. كما سارعت الأمم المتحدة ومجلس الأمن والفاتيكان وحكومات العالم في إصدار بيانات تندد بهذه الجريمة النكراء.

 

وباستثناء عدد من الصليبيين المتطرفين، مثل نائب رئيس الوزراء الإيطالي ووزير الداخلية، ماتيو سالفيني، والسيناتور الأسترالي، فريزر أنينغ، عبر معظم قادة العالم عن مواقف حازمة وواضحة. ولعل أفضلهم كان موقف رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاكيندا آرديرن، التي كسبت احترامنا بموقفها المتعاطف والحازم. فقد سارعت، وهي ترتدي الحجاب، بزيارة أسر الضحايا لتؤكد لهم التزام بلادها بحمايتهم، والوقوف في وجه هذه الفظائع التي ترتكب باسم المسيحية. وأصدر رئيس الوزراء الأسترالي بيانًا رسميًا صارمًا ضد السيناتور اليميني المتطرف، أنينغ، ووقع أكثر من مليون أسترالي على عريضة عبر الإنترنت لإقالته من البرلمان. فيما وقفت حشود نيوزلندية وأمريكية من مختلف الأديان حول مساجد في كرايستشيرش ونيويورك لتستمع للآذان، وتعزي المسلمين في مصابهم، وتشعرهم بتعاطفهم، وحرصهم على حماية حقهم في العبادة.

 

كما كانت التغطية الإعلامية الدولية مسؤولة، وإن امتنعت في البداية عن وصف الجريمة بالإرهاب الديني. وتحدث مذيع مسلم في قناة أسترالية عن بيئة الإسلامفوبيا ومعاداة الأديان التي أنجبت هذا التطرف، وأشار آخرون إلى روح المعادة للإسلام في أوروبا وأجزاء أخرى من العالم، مثل الصين وميانمار، التي صنعت هذا المناخ. ودعا آخرون لاستصدار قوانين دولية ضد خطاب الكراهية.

 

وبقدر ما كان الهجوم الإرهابي مروعًا، فقد أظهر مدى تضامن البشرية في مواجهة التعصب الديني والعرقي الذي أدى إلى هذه الجريمة وغيرها من الاعتداءات على دور العبادة حول العالم.

 

ذكّرتني هذه الحالة بتجربة مماثلة بعد هجمات 2001 الإرهابية على نيويوك وواشنطن. ففي اليوم التالي لأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ، وصل عدد من حملة الشموع بأعداد متزايدة لتطويق مركزنا الإسلامي، في يوجين أوريجون. يقول الإمام الليبي: “كنا متوترين في البداية، لكنهم أكدوا لنا أننا هنا لحمايتكم … لن نحمل دينكم المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها الإرهابيون باسم الإسلام“. وفي يوم الجمعة التالي، شهد عمدة المدينة وأركان إدارته وقيادة الشرطة الصلاة، ونقلوا لنا دعم حاكم ولاية أوريقن. دُعي العلماء المسلمون للتحدث في الكنائس المحلية ودُعينا لحضور فعاليات كنائس والسكان الأصليين. كما نظمت الكليات في ولاية أوريغون حملة توعية حول روح السلام في الإسلام، وشاركت في ذلك صحف الجامعات ووسائل الإعلام المحلية.

 

ونتيجة لهذه التوعية والمواقف الملهمة، تفاعل الأئمة والقساوسة المتشددون وصارت خطبهم تتحدث أكثر عن التعاون بين الأديان والوئام، والتعايش السلمي في الخطب ووسائل الإعلام.

 

لم تُظهر وسائل الإعلام والمؤسسات المدنية في أوريغون تسامحًا دينيًا فحسب، بل حلقت أيضًا بوعي الناس إلى آفاق جديدة من التفاهم والمعرفة.

 

وبعد محاضرة قدمتها في مؤتمر بجنوب أفريقيا عن دور الإعلام في النزاعات الدولية، سألني صحفي “لكن ماذا عن حرية التعبير؟” وتحداني آخر “أعطني مثالًا على تقارير وسائل إعلام أدت الى حرب؟”

 

كان جوابي أن الصحفي بدأ ومنتهى هو مواطن عالمي صالح، وصاحب مسئولية وضمير إنساني. وإعطاء منصة لخطاب الكراهية يؤدي إلى صراعات. لقد رأينا ذلك في الشرق الأوسط؛ حيث تستخدم وسائل الإعلام لتعزيز الانقسام والكراهية. فيقتتل الناس حول قضايا طائفية عمرها 1400 عام. لقد رأينا ذلك في رواندا، عام 1994، عندما أشعلت وسائل الإعلام كراهية قبائل الهوتو ضد أقلية التوتسي. وخلال ١٠٠ يوم فقط تم ذبح مليون إنسان.

 

من ناحية أخرى، كانت وسائل الإعلام الأمريكية؛ خاصة في ولاية أوريغون، أكثر حكمة ومسؤولية بعد 11 سبتمبر. إذ لم يستغلوا حريتهم في نشر خطاب الكراهية، بل سعوا إلى بث رسائل إيجابية حول الطبيعة السلمية للإسلام لموازنة الرسائل السلبية من الإرهابيين والمتطرفين.

 

ما نحتاج إليه اليوم هو الاتفاق على ميثاق شرف إعلامي لتقنين تغطية الصراعات الدينية. هدفنا هو إعلام الجمهور بالأحداث الجارية، وليس توفير منصة للدعوة إلى الكراهية.

 

أدعو قادة الرأي في وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في العالم الإسلامي إلى التصرف بمسؤولية.  فالإرهابي الإسترالي كان يمثل جماعات دينية وعرقية متطرفة. وعلينا أن لا نكرر أخطاء الإعلام الدولي خلط بين إرهاب الجماعات المتطرفة بيننا وبين الدين الحنيف. بل على العكس، أتمنى أن نستفيد من هذا التضامن العالمي مع ضحايا المسجدين لتكريس جهود التعاون بيننا وبين شركائنا في العالم لمحاربة الأفكار الضالة والمنحرفة، وتحريم خطاب الكراهية والعنف.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button