لقد أصبحت وسائل الاتصال ثقافة في مجتمعاتنا، ولم يعد استخدامها أو اقتنائها للحاجة فقط، بل تجاوزت ذلك لتصبح في معظم الأحيان من الكماليات أو من وسائل التباهي والاستعراض، فمنذ أن أصبحت هذه التقنية سهلة الاستخدام ومتوفرة بين يدي الكبار والصغار، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من يوميات أحدنا، فلا تكاد تجد أحدًا بدونها حتى وإن لم يكن بحاجة لها، فأصبح استخدام التقنية يطغى على جميع مظاهر حياتنا وكافة مجالاتها دون استثناء، بل ووصل انتشار استخدامها إلى الحد الذي يُستغرب معه عدم استخدامها من البعض، حتى وصل الحال إلى الهوس والإدمان إلى حد الجنون، وبما يهدد حياتنا الاجتماعية والصحية، بل وحتى أمننا وسلامتنا.
ومما يزيد الأمر خطورة أنها أصبحت تشغلنا عن أدوارنا ومهامنا الأساسية، فقد أصبح الجميع مهووسًا بمتابعة وملاحقة المقاطع والتغريدات وتتبع أخبار المشاهير، فما أن تُراجع إدارة حكومية إلا وتجد انشغال الموظفين فيها بهواتفهم أمرًا طبيعيًا، فالكل منهمك في جواله وكأنه في عالم آخر، فتجد الموظف واضعًا السماعات في أذنه بالكاد يسمعك أو يرد عليك، وعندما تخاطبه يجيبك بأجوبة مقتضبة وامتعاض، وإن تماديت بإشغاله عن جواله فقد تثير غضبه وتدفعه لزيادة تعقيد معاملتك، وليس ذلك فحسب، بل حتى المعلمون في المدارس أصبحت بينهم وبين طلابهم فجوة بسبب انشغال معظمهم بأجهزتهم، وكذلك الممرضون في المستشفيات الذين قد يعرضون حياة المرضى للخطر بسبب انشغالهم بهواتفهم وأجهزتهم الذكية، وتقاعسهم عن أداء واجبهم الذي يعد دينيًا وإنسانيًا قبل أن يكون وظيفيًا.
ومن المظاهر المرعبة أيضًا ما يحدث في شوارعنا من حوادث مفجعة وطوام والعياذ بالله بسبب انشغال قائدي السيارات بجوالاتهم، والأدهى والأمّر عندما تجد انشغال رجل المرور بالجوال، رغم أنه يجلس بسيارته أو على دراجته النارية عند الإشارة، ولكنه قد لا يرى من يخالف أو يقطع الإشارة !!!
فالوضع عامة قد جاوز الحد، وأصبح خطرًا يهدد مجتمعنا، ويحتاج إلى إعادة النظر في ضرورة فرض عقوبات صارمة على مستخدمي الجوال خاصة ممن هم في موقع المسؤولية.
ونعترف بأن التقنية لم تعد أمرًا ثانويا، بل أصبحت ضرورة ملحة لمواكبة تطورات الحياة، فقد استطاعت اختصار المسافات والزمن والحدود الجغرافية، وتحقيق مفهوم القرية الكونية الصغيرة على أرض الواقع، وساهمت في تطويع كل الصعاب، وقد أثّر هذا التطور الهائل في في أنماط حياتنا وأصبح يسيطر ويتحكم في جزء كبير منها، فلم يعد استخدام التكنولوجيا يقتصر على فئات معينة من الناس، وإنما أصبح اقتناء واستخدام الهاتف الخلوي هو الشغل الشاغل لأي شخصٍ مهما كان مستواه التعليمي أو الثقافي أو الاجتماعي أو حتى مهما كان عمره، وأصبح بمقدور الجميع أن يؤدوا مختلف أعمالهم ومتطلباتهم باستخدام هذه التقنية، ولكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد من الجنون والهوس والإدمان؛ مسبّبًا الكثير من المشاكل الأسرية والصحيّة والمُجتمعية ..، فهنا لا بُدّ من الإشارة إلى ضرورة رسم طبيعة العلاقة بين التّقنية والمُجتمعات، ووضع حدود لضمان اتّساق هذه التقنية والحداثة مع قيم المجتمع ومتطلباته، والوصول إلى حالة من التّكيف والتوازن الواعي بينهما.