الديار واحدة والأعلام واحدة، والله واحدٌ وكفى … غيرها،
قال ابن خُرمان:
كانت علوم الديرة والسيرة مهمة جدًا؛ خاصة في منطقة الباحة حيث كانت الوسيلة الوحيدة لمعرفة أخبار الأسواق والأسعار والأمطار وغيرها فما أن يأتي زائر أو يتقابل اثنان حتى يبادر أحدهما بالعلوم ثم يرد عليه الآخر بما لديه، وعادة ما يبدأون بقولهم: (علومنا خير) ثم يتبعونها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبار الديار والأمطار والزراعة والموتى والمرضى والأسعار بصفة عامة من حبوب ومواشي، ثم يضمنون العلوم هدفهم من الزيارة أو وجهتهم ثم يختمون العلوم غالبًا بقولهم: (وسلامتكم أو بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو غيرها مما يناسب نهاية العلوم )، ثم يرد الآخر مبتدئًا بالترحيب بالشخص وبعلومه ويعطي مالديه عن اخبار الديار والأسعار وغيرها، وينهي علومه بجملة مناسبة كقول: (وهذا مانرد به في علمكم وسلامتكم أو بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
وكانت العلوم مهمة أثناء المناسبات العامة مثل الزواجات، وغيرها ودائمًا يبدأ الضيوف بالعلوم ليرد عليهم المضيفون، ويحدث أحيانًا أن يكون في تلك المناسبة عرضة فيدخل الضيوف بعرضتهم، ويتقدم شاعرهم فيجمل علوم الديرة والسيرة في قصيدة قد يرد عليه فيها الشاعر المضيف بقصيدة أخری.
قال ابن خُرمان:
أهمية علوم الديرة والسيرة كانت قبل أن يظهر التلفزيون، ثم وسائل التواصل الاجتماعي من بعده، والتي طغت على أحداث المجتمع فأصبح ما يحدث في آخر الأرض لا تمر دقائق ولربما ثوانٍ إلا وهو في كل جهاز جوال ويتناقله الناس، وقد يضيف بعضهم من محبي الفبركات ومحبي الفتن وذوي الأهداف طيبةً أو سيئة ما ليس صحيحًا في الخبر نفسه .. ومع هذه الوسائل لم تعد الأخبار (العلوم) غريبة ينتظرها الناس من القادمين، فقد شاهدنا في الفترة الأخيرة أمطار الديرة في الحجاز وتهامة على الهواء مباشرة، كما شاهدنا افتتاح مشاريع مثل طريق الحسام؛ وكأننا معهم جلوس ولا نزال نتابع أحداث فتح العقبة يومًا بيوم ولحظة بلحظة، وقد قللت هذه الوسائل الحديثة من أهمية علوم الديرة والسيرة التقليدية، والتي أصبحت تختصر عندما يأتي أحدهم قاصدًا آخر لهدف معين فيتطلب الأمر أن يعلّمه علمًا مختصرًا يضمنه هدف الزيارة (وهذا لا يمنع القول أن هناك من يحاول الحفاظ على استمرارية علوم الديرة والسيرة في بعض المناسبات كالزواجات).
قال ابن خُرمان:
كما ذكرت سابقا أن علوم الديرة والسيرة قد ترد في قصائد شعراء إذا كانت المناسبة فيها عرضة، وسأورد هنا بعض هذه القصائد .. ولعل البداية تكون بقصيدة للشاعر محمد بن مصلح الزهراني -رحمه الله- والذي يطلب فيها من الشاعر المقابل علوم الديرة والسيرة، ويراها واجبة على الطرفين حيث قال:
مرحبًا يا ضيف عطني علوم بلادكم
وأنت لا علمت باعطيك علم بلادنا
واجب الإعلام ياصاحبي منا ومنكم
لي ثلاث سنين ع البدو ما علمتني
والقصيدة التالية من الشاعر خرصان الغامدي -رحمه الله- في إحدى المناسبات، فقد خطب أحد شباب قرية رغدان من الباحة إحدى فتيات دوس من قرية بدادا من والدها، فتمت الموافقة بشرط أن ياتي أهل العريس وصحبه إلى دوس؛ حيث تقام مراسيم الزواج هناك بقرية بدادا والوكف فتمت الموافقة وهي نادرة الحصول، وجرت الاستعدادات لاستقبال رجال رغدان، وعادة يتقدم أكبر الضيوف سنا، وأبلغهم في ثقافة علوم السيرة والديرة، ولكن في تلك المرة تقدم شاعر الضيوف آنذاك الشاعر خرصان الغامدي بالقصيدة التالية التي ذكر فيها النسب والديرة وقلة الأمطار حينها؛ مما جعل إنتاج المزارع لا تكفي أصحابها ثم تطرق إلى الأسعار، وختمها بذكر سبب الحضور واهتمامهم باللوازم والرحم:
ياقبايل دوس حنا نعلمكم بخيـــــــــــــر
والصلاة على الرســـــــــــول
أرضنا في خير وابخير ماطاري خلاف
حضرنا والبــــــــــــــــــــادية
أرضنا رغدان وانحن رجال ابني خثيــم
واسمنا غامد جميــــــــــــــع
والبلاد أجواد لكن من ربي خطــــــــــــاه
يالله المشكا عليـــــــــــــــك
والمزارع والبساتين ما تكفي لأهلها
من حبوب وخضـــــــراوات
النجادا غالية من ميه لا ميتــــــــــــين
في البنادر كلهـــــــــــــــــــا
واسبع واثمان واتسع في الروس الكبار
هاتيه أعلام الديــــــــــــــــار
والعلوم إلي بعيدة كفى الله شرهــــــــا
تسمعون اكما انحـــــــــــــن
غيرها ماغيرها ألا نسلم عالعواني
واللوازم غالية عند بيضـان الوجـوه
يعتبر الشاعر عقال الصلصل الزهراني -رحمه الله- من قرية عويرة بالطفيل من المبدعين في هذا المجال، وله عدد من القصائد في مناسبات مختلفة نذكر منها هذه القصيدة عند حضورهم مناسبة زواج ابن أختهم علي بن ضيف الله من بالحكم عام ١٣٩٩هـ، بدأها بذكر الله والصلاة على رسول الله، ثم تطرق لأخبار الديار، وأشار إلى قلة الأمطار بصيغة جميلة؛ حيث ذكر أن الحنش وهو الثعبان لا يجد ماءً في الآبار مما سبب قلة في المحصول الزراعي، وأخيرًا ذكر سبب قدومهم تلبية لدعوة وصلتهم وصلة للرحم:
ابدا بذكر الله قدام مانقول
وبعدها صلوا على الهاشمي الرسول
ارد تسليمي على روس بالحكم
علومنا يالربع ستر وعافية
البير ماعاد الحنش منه يشربا
والصيف جانا منه ربع وناصفة
وبعدها جتنا المراسيل من علي
جينا نودي واجب يالنسيب الغالي
انسابنا من عهد أبونا وجدنا
والقصيدة التالية للشاعر عبدالله بن أحمد حسين الزهراني من النصباء في مناسبة زواج في بالحكم، بدأها كالمعتاد بذكر الله ثم الصلاة السلام على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم انتقل إلى علوم الديرة والسيرة وسبب الحضور:
طلبة الله قبلما نفرد العلوم
والصلاة على محمد شريف القوم
ياسلامي يالذي يقضي اللزوم
ماتقدم ربعي إلا لهم خدوم
أي علوم الديرة والسيرة واحدة
جرنا ويلاك من شان لازمة
قدر داعيكم وجبران للرفيق
هذا من يمه ومن يم هذا المعنى
ووفايتها عفى كل من حضر
أما الشاعر عبدالرحمن بن عراق الزهراني، فقد تطرق لعلوم الديرة والسيرة ببعض الإسهاب أثناء حضوره مناسبة عند الشيخ عوض بن سالم بن عوض الزهراني في قرية الثراوين أشار فيها الخير الوفير في البلاد والأمطار التي عمت حينها البلاد مع مقارنته بين الماضي والحاضر في استقبال المطر والفرحة بقدومه، ثم ذكر سبب القدوم، وختمها بمدح المضيفين وشكرهم على كرمهم غير المستغرب:
بسم الله والعلم خير ابداه واصلي على النبي
الديرة والسيرة واحد والوطن واحد ولا به طاري
لا مريض ولا عريض ولا خلاف وكلنا بخير
البضايع وافرة لا فرق ما بين المدن والديرة
والذي في جدة وفي العاصمة موجود عندنا
والثمن ما هو بواحد كل شي(ن) جددوا تسعيره
اشتر على قدرتك ما دام قلت قيمة الريال
والعالم كله على الشاشات ما يخفى الخبر في وقته
والفتن بارض اليمن والشام باللحظة نشوفها
والمطر جا منه خير ورحمة الله واسعة وافضاله
والمزارع بطلوها الناس ما عد يزرعونها
أول لا جانا المطر كل(ن) يجاكرنا بحرث بلاده
وأما في ذا الوقت نتجاكر بتصوير(ن) وتمشية
الله أغنانا بفضله ثم فضل الدولة المحكومة
دولة ابن سعود فيها العدل والخيرات والنعم
الله يحفظها ويحفظ قايد الدولة وجيشها
لا من الله لين هذا اليوم شرفنا نجيب الداعي
عند ناس جودهم وأمجادهم يضرب بها المثل
مقصدي دار الثراوين العريقة والنسب ندري به
من قريش الهول والجعفر نشامى عزوة لزهران
حسب رايك يامقدمهم فهد بن جابر الحسين
ما يبادر بالوفا غير الرجال الغانمين الونعم
وأنتم والله تقدرون ويستحق المكرمة عوض
بيض الله وجه ربعك ما توانوا يا عوض بن سالم
عن سليل الشور والحكمة وراعي العرف والمعروف
الله يرحم من رباك ولازم أنك في الطريق تواصل
القيادة والريادة بينكم مكسب وراس مال
يالثراوين الشرف للجعفري وأفعالكم تزهاكم
والجمايل والثقة بين النشامى في محلها
قال ابن خُرمان:
قبل أن نختم مقالنا هذا لعل من الجميل ذكر لبعض من طرائف علوم الديرة والسيرة التي وردت على ألسنة الشعراء أو غيرهم ..
كان الشاعر معيض القافري الزهراني -رحمه الله تعالى- عند ربعه في الحجاز في موسم حصاد الصيف، وعندما غار إلى الآخرين في تهامة أعطاهم علومه مختصرة في صيغة قصيدة؛ حيث بدأها بأن الأمور في السراة طيبة أما الزراعة فقد انتهى حصاد الشعير والعدس أما الحنطة والمشعورة (وهي المخلوطة من الحنطة والشعير). فقد حان حصادها:
في السراة ماشي ولا خلاف
شعيرنا شتى، وشتى البوسن
والحنطة، والمشعورة ناجحة
ومن الطرائف أيضًا العلوم بطريقة التعجيز الشعري، فقد تقابل الشاعران جريبيع الزهراني والمالحي -رحمهما الله- وهما من قرية واحدة وكان أحدهما عائدًا من السوق فطالبه الآخر بعلوم السوق، فقال الزملة القصيرة التالية:
لا هبطت السوق ماتلقى الشي بلاش
بيتلقى الشي بشي
فرد عليه صاحبه بزملة حملت نفس الألفاظ باختلاف المعاني قائلا:
لا هبطت السوق ماتلقى الشيبة لاش
بيتلقى الشيبة شي
فكان الأول يتحدث عن السوق وأسعاره، وأن كل شيء بثمن بينما الآخر كان كلامه عن كبير السن بأنه ليس هينًا وإنما ذو بأس ونجدة.!
ورغم ثراء هذا الموضوع إلا أنني سأختم مقالي هذا بما جرى لرجل من قرية عويرة بزهران يدعى سوقان -رحمه الله- واسمه (سالم بن عبدالله الزهراني ) كان نازلا بحلاله في ديار بني عمر من زهران لقلة الأمطار في ديرته فمر عليه رجال من قبيلة الزهران من غامد يتميزون بالبلاغة فابتدأ أحدهم بعد السلام بالعلوم في إيجاز بديع تضمنت التعريف والهدف قائلًا:
نحن من الزهران
نبغي بلاد زهران
لنا بعض الغرضان
فكان رد سوقان لا يقل إعجازًا، وإيجازًا، وبلاغةً من علوم صاحبه حيث عرف بنفسه ثم شرح سبب نزوله هذه الديار فقال:
وأنا من عويرة
أرضنا جديرة
وابغي انزل ذا الديرة
قال ابن خُرمان:
غيرها ما عاد إلا الستر ونسأل الله يديمه، وهذا مانعلمكم به، وصلى الله وسلم على محمد وآله، وسلامتكم.
دونه/
علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني
الدمام
الأربعاء 27 رجب 1440هـ الموافق 3 أبريل 2019 م
ماقصّرت في نقل الموروث نتطلّع الى علوم الحاضر والمستقبل بما يعالج قضايانا الاجتماعيه التي نحتاجها