عزل الجيش السوداني للبشير يعيد خلط أوراق تركيا التي تسعى للهيمنة على الدول العربية وللتمدد في أفريقيا من بوابة السودان، ويثير عددًا من التساؤلات عن مصير عدد من الاتفاقيات التي وقعها البشير مع أردوغان، وعلى رأسها اتفاقية الإدارة التركية الكاملة لجزيرة سواكن، والتي نتج عنها غضب سعودي مصري، لكن حاول البشير أن يتخذ مواقف وسطية بين المد والجزر، خصوصًا وأن السعودية هي التي تمكنت من إقناع أمريكا من رفع العقوبات على السودان التي فرضتها عليه بسبب اتهامه بالإرهاب، وهو مطالب للمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته، وفي نفس الوقت شارك البشير في قوات التحالف في اليمن حتى يمتص غضب السعودية تجاه السودان، لكن في المقابل لم تقبل السعودية اتّخاذ قطر من مشاركتها في قوات التحالف في اليمن غطاء لتنفيذ سياسات خارجة عن التوافق الخليجي تخدم المشروع التركي.
لذلك نجد أردوغان قلقًا من عزل البشير، ويدعو السودانيين إلى مصالحة وطنية، ويذكر الجيش السوداني بالاتفاقيات التي وقعتها أنقرة مع البشير، وأصاب عزل البشير إلى ارتباك مشروع الإسلام السياسي الإخواني، خصوصًا وأن هناك مصادر سودانية تؤكد أن الرئيس البشير محتجز في القصر الرئاسي مع عدد من شخصيات إخوانية تحت حراسة مشددة.
هناك خيبة أمل تركية التي أفشلت تطلعات أردوغان خصوصًا وأن الأزمات تتوالى على تركيا، فأزمة تركيا كانت مع انهيار الليرة التركية التي تسببت في خروج الاستثمارات وارتفاع نسب التضخم ونسب البطالة، وأزمته كذلك مع أمريكا حول الورقة الكردية، وحول شراء تركيا أسلحة أس 400 الروسية، باعتبار أن تركيا عضو في حلف الأطلسي.
تعتبر تركيا سقوط البشير سقوط لمشروعها، إذ إن السودان النفوذ الوحيد المتبقي لتيار الإسلام الإخواني الذي تقوده تركيا، خصوصًا وأن تركيا خسرت حليفًا قويًا، وهي السعودية بسبب تأسيس قاعدة عسكرية لها في دولة قطر، وهو ما أغضب السعودية، وطالبت السعودية تركيا بإخراج تلك القاعدة من قطر باعتباره أمن خليجي، وهي بداية أزمة سعودية تركية، خصوصًا بعدما حاولت تركيا استثمار أزمة خاشقجي لمحاصرة السعودية وابتزازها سياسيًا، لكن السعودية دولة محورية لن ترضى دول العالم الكبرى أن تبتزها تركيا، خصوصًا وأن مصالح الدول الكبرى السياسية والاقتصادية مع السعودية ضخمة، ولن تقبل أن تتأثر تلك المصالح، ولن تترك تركيا تبتز السعودية.
تعتبر السعودية أن لها الفضل في تخليص السودان من عقوبات مفروضة عليه لمدة عقدين من الزمن، استثمرت تركيا رفع تلك العقوبات بأن قام أردوغان بأول زيارة للسودان عام 2107 ووقع عدة اتفاقيات بقيمة 650 مليون دولار، والسعودية ليست غاضبة من تلك الاستثمارات المشتركة، وهناك استثمارات سعودية تركية مشتركة، لكن يغضبها أن تتولى تركيا إدارة سواكن المواجه لمدينة جدة؛ مما يشكل قلقًا بالغًا للسعودية ومصر خصوصًا بعدما أنشأت تركيا قاعدة عسكرية لها في الصومال وقطر، مما فرض على السعودية أن تقود مصالحة بين دول القرن الأفريقي لحمايته من التدخل الأجنبي، تقصد بذلك الإيراني والتركي، بعدما كانت السعودية تغض الطرف عن المشروع التركي، لكن بعدما نشط المشروع التركي بعد فشل المشروع الإخواني في مصر الذي حاول الإخوان بعد ذلك نقل قياداتهم إلى تركيا وقطر، وهو يعبر عن طموحات سياسية وعسكرية لأردوغان، وبالطبع يعتبر أدروغان السودان محطة مهمة لمشروعه، لكن البشير اتخذ موقفًا وسطيًا، وحاول ألا يغضب السعودية، لكن المشروع الإخواني قائم ونشط، ويعتبر السودان قاعدة مهمة.
بذلك فقدت تركيا التي تعد راعية للإسلام السياسي الإخواني بعزل البشير حليفًا استراتيجيًا كانت تعول عليه في تعزيز نفوذها في المنطقة العربية والأفريقية لصالح المحور العربي السعودي المصري.
هناك محوران، فأنصار محور الممانعة والمقاومة التابعين لمشروع ولاية الفقيه يعتبرون الجمهورية الإسلامية زعيمة العالم الإسلامي، وكذلك أنصار مشروع الإسلام السياسي الاخواني يعتبرون أردوغان زعيم العالم الإسلامي؛ لذلك نرى الشيخ القرضاوي يسمي أردوغان بسلطان المسلمين، ويتبعه في ذلك نائبه القرة داغي، وهناك التقاء بين المشروعين كما نرى في ذلك بعد مقاطعة الدول العربية لدولة قطر انتفضت إيران وتركيا لدعم قطر باعتباره ظاهريًا دعمًا إنسانيًا، ولكن في حقيقته لاستمرار الأزمة حتى تستقوي قطر بهاتين الدولتين، والآن كلا المشروعين ينتفضان إلى جانب قطر عندما وضعت الولايات المتحدة الحرس الثوري على قائمة الإرهاب.
عملت تركيا على تقوية وجودها العسكري في جزيرة سواكن السودانية التي شكلت لها مطمعًا لها سعت من خلاله إلى استعادة ما وصفته بإرث الإمبراطورية العثمانية، لتؤمن موطئ قدم لها على البحر الأحمر، رغم أن السعودية فرغت مشروعها عندما أقدمت على مشروع الدول المتشاطئة على البحر الأحمر، أتى بعدما قامت بمصالحة في القرن الأفريقي، بعدما أقامت تركيا قاعدة لها في الصومال قبلما تقيم قاعدة في قطر بعام، ما يعني أن السعودية ومصر حصنتا منطقة القرن الأفريقي الذي يربط البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب إلى بحر العرب المؤدي إلى المحيط الهندي؛ حيث تمثل منطقة البحر الأحمر بالإضافة لخليج عدن أهمية استراتيجية، واقتصادية وأمنية متداخلة يصعب الفصل بينهما.
وجدت تركيا الفرصة سانحة في تلك المنطقة، خصوصًا وأنها وجدت دول ضعيفة بسبب النزاعات الداخلية وقلة الموارد والفقر وهو ما تنبهت له السعودية، وأقدمت على تلك المصالحات، وأقامت تكتلًا اقتصاديًا بين تلك الدول.
طي صفحة البشير تطوي معها صفحة ثلاثة عقود من مشروع الإسلام السياسي الإخواني الذي أثبت فشله في مصر على يد الجيش المصري بدعم السعودية بعدما قام الشعب المصري بثورة مضادة عام 2013 ضد حكم الإخوان الذين تم انتخابهم، وفي تونس، وفي العراق بشقيه السني التابع للإخوان المسلمين، والشيعي التابع لولاية الفقيه، المتمثل في حزب الدعوة، وهي الدولة العربية الوحيدة الذي يتواجد فيها المشروعان، وبالفعل أثبت المشروعان فشلهما في العراق، وتسبب حزب الدعوة الحاكم الفعلي بكوارث على العراق، وعلى بقية البلدان العربية الأخرى، وتمكنت مصر من إنقاذ مصر من تلك الجماعة، وكذلك تونس، واليوم السودان، وهناك حذر من قبل الجيش الجزائري من سرقة الإخوان الثورة الجزائرية بعد تنحي بوتفليقة، لكن تولى الجيش زمام الأمور.
انهيار قلعة الإسلام السياسي في السودان، وباعتراف البشير قبل عزله فشل الاقتصاد ما يسمى الإسلامي إذ تفرض البنوك ما تسمى الإسلامية فوائد 15 في المائة وهي أعلى بكثير من فوائد البنوك ما تسمى الربوية، ما يعني أن الإسلام السياسي الإخواني ومشاريعه فشلت عندما روجت لأكذوبة البنوك الإسلامية وأنها بنوك لاربوية، فيما النظام المالي وفق الشريعة الإسلامية يركز على المشاركة، وليس على الفوائد وهو نظام لم يتمكن المسلمون من إنجاحه على أرض الواقع.
اتّخذ أردوغان من الأراضي السودانية بؤرة ضغط على السعودية التي تقف بجانب مصر ضد محور تيار الإسلام السياسي الإخواني، لكن كان البشير يُعاني مشاكل عدة صعوبات وعقبات، خصوصًا العقوبات الأميركية التي رفعت عام 2017 بضغط سعودي التي فرضتها منذ عام 1997، وخسر البشير 70 في المائة من نفط السودان بعد انفصال الجنوب عام 2011، ومتهم البشير من جماعات حقوقية من أنه تسبب في مقتل 300 ألف شخص في دارفور عام 2003، واتهم بالإبادة الجماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتحدى البشير المحكمة الدولية، وواصل زياراته للدول الأجنبية الصديقة.
استمر البشير في الحكم منذ عام 1989 قبل عزله في 11/4/2019، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي لمدة عامين، رغم رفض تجمع المهنيين السودانيين المنظم الرئيسي للاحتجاجات ضد البشير، لكن الموفوضية الأوربية دعت جميع الأطراف في السودان في نفس اليوم الذي أقيل فيها البشير إلى الإحجام عن اللجوء للعنف، ومندوب السودان في الأمم المتحدة اعتبر أن ما حدث من إقالة البشير شأن داخلي، وأكد أن المجلس العسكري الانتقالي سيشرف على انتخاب حكومة مدنية.