كنا في ربيع عام 2016 بمدينة إسطنبول، وقد انتهيت للتو من مقابلتي التلفزيونية حول تحسن العلاقات بين بلدينا، بعد سلسلة من الاجتماعات الرسمية، وإنشاء مجلس أعلى للإشراف على المشاريع والمبادرات الثنائية. أراد زميلي، مسؤول القناة، معرفة سبب غضبة السعودية في السنوات الماضية، وما الذي تغير؟
قلت: لعل الأمر يتعلق بتأييد الرئيس التركي لخطة أوباما لزعزعة استقرار العالم العربي، باستخدام أموال قطر وأحزاب جماعة الإخوان المسلمين وإشراف تركيا، بالتنسيق مع إيران. لقد دمر ما يسمى “الربيع العربي” نسيج العديد من البلدان، ولولا يقظة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ لكان الحريق قد وصل البقية.
وفي العادة، لا يمنح قادة المؤامرات فرصة ثانية. ومع ذلك، تم إعفاء أردوغان. فتركيا بلد مسلم عظيم لا نود أن نخسره. وآمل أنه بعد فشل المشروع التدميري، سوف يدرك أردوغان أخطاءه، ويترك “معسكر الشر”، وينتهز فرصة تسامحنا للانضمام إلى المشروع الأكبر للسلام والتنمية في الشرق الأوسط مع دول الاعتدال العربية.
لدهشتي، لم يحاول زميلي التركي دحض أو تفنيد ماقلته. ولانه من أشد المؤيدين لأردوغان، كنت أتوقع منه أن ينكر سياسات رئيسه أو يدافع عنها. بدلًا من ذلك، أنهى قهوته التركية، وأطفأ سيجارته وغير الموضوع! أخذت ذلك كإقرار بصحة ماقلت، لكنني تأملت أن أكون مخطئًا، فتركيا يمكن أن تكون حليفًا قويًا في منطقة تعيش تعيث فيها فسادًا إيران وميليشياتها الإرهابية، كداعش وحزب الله والقاعدة والحوثي والحشد الشعبي، ونحتاج بعضنا البعض لإطفاء الحرائق في سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، وليبيا، وغيرها. كما سنكسب من تعاوننا في مجالات التعليم والعلوم، والتكنولوجيا، والاستثمارات المشتركة في الصناعة والبنية التحتية والسياحة وغيرها من مجالات التنمية. فخبراتهم مع مواردنا المالية سترتقي بنا. وتحالفنا العسكري والأمني سيمكننا من إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.
للأسف الشديد! كسبت الأيديولوجية والتطلعات التاريخية الجولة في تركيا-أردوغان. لم يقبل العثمانيون الجدد والإخوان المسلمون في حزب العدالة والتنمية الهزيمة وتمسكوا بحلم إمبراطوريتهم العثمانية والخلافة الإسلامية. وكما سعى الملالي في طهران لاستعادة الإمبراطورية الساسانية بعباءة شيعية، استثمر الإسلاميون في أنقرة قوتهم وثرواتهم الجديدة في المشروع السني المنافس. ويوم ما سيتصادم المشروعان، لامحالة، كما حدث في سوريا. ولكن مؤقتًا يمكن أن يساعد كلاهما الآخر في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية التي حلت محل عقيدة أوباما والتحايل على العقوبات الأمريكية المفروضة عليهما.
في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، اتبعت تركيا سياسة “تصفير المشاكل” فازدهر الاقتصاد وارتقت البلاد الى مراتب غير مسبوقة في التنمية والمكانة الدولية. ثم استيقظت الإيديولوجية وشعر “السلطان أردوغان” أنه بات قادرًا على تحقيق هدفه النهائي، وأصبحت الهيمنة الإقليمية والقيادة الإسلامية هاجسه الأول. وبسبب ذلك خسر أكثر حلفائه وأصدقائه، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. ودخل في صراعات مع الأكراد وسوريا والعراق. وزاد الطين بلة تحالفه مع أنظمة تواجه عقوبات دولية، كروسيا وإيران وفنزويلا.
وعليه، فقد بات أفضل إنجاز لأردوغان هو أسوأ فشل له. فمع دخول الدولة التي ازدهرت لأكثر من عقد من الزمان رسميًا في أول ركود لها منذ عقود، فقدت الليرة ثلثي قيمته ودفع الثمن من شعبيته، كما أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة، والتي حولتها حملاته إلى أستفتاء عليه. ولذلك فقد جاءت خسارة حزبه لأكبر المدن في البلاد، بما في ذلك العاصمة أنقرة والعاصمة الاقتصادية والتاريخية إسطنبول وأزمير وأنطاليا، لأول مرة منذ 25 عامًا، صادمة، قاصمة.
ومع ذلك، فلم يفت الأوان بعد لمراجعة شاملة. فتركيا تبقى رقمًا صعبًا ولاعبًا كبيرًا على مسرح السياسة الإقليمية والدولية. وقد يتسامح الغرب والعرب مع الأخطاء السابقة إذا استمع الرئيس لمطالب شعبه. فالشعب التركي مثل الإيراني، ليس لديه مصلحة في هذا السعي المحموم لتحقيق الطموحات التاريخية وتنفيذ الأجندات الأيديولوجية، وإنما في تلبية احتياجاتهم وتحقيق تطلعاتهم الوطنية. وإن لم تدرك القيادة التركية ذلك؛ فإن الانتخابات القادمة ستخرجهم من السلطة. هذه هي الفرصة الثالثة لأردوغان وقد لا تكون هناك فرصة أخرى! آمل ألا يضيعها!