عندما أعدم ديمقراطيو أثينا سقراط، أعظم رجل في زمانه، بتهمة إفساد الشباب، رأى تلميذه أفلاطون، المشغوف به، أن الديمقراطية هي المسؤولة عن موته، وكتب في كتاب «الجمهورية» أن الديمقراطية أسوأ الأنظمة بعد النظام الاستبدادي.
يبدو حكم أفلاطون على الديمقراطية مجحفًا؛ لكنه يكشف عن عيبها الجوهري بأنها تمنح الرعاع قولًا في الشأن العام. وشرح بدقة كيف تنحدر البلاد عندما يقرر مصيرها الرعاع، إلى الفوضى والتأخر، وكيف يطالب الناس لاحقًا بحاكم قوي لإعادة الأمن والاستقرار للمجتمع.
الأبرز في نظرية أفلاطون أن الحاكم القوي يعيد الاستقرار والأمن؛ لكنه يتحول، مع الوقت، إلى مستبد لا يقيم وزنًا لقانون ولا قيم؛ لذا صنف أفلاطون الديمقراطية بأنها نظام متخلف يتقدم فقط على النظام الاستبدادي.
احتاجت الديمقراطية، بعد نقد أفلاطون، لقرون لتتعافى من هجومه، ولتنبعث من جديد، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث نمت الديمقراطية في الغرب، وأصبحت نموذجًا يحتذى، وبالذات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحول معظم دول العالم إلى النظام الديمقراطي، أو على الأقل الاعتراف به.
في عام 2008 وقع ما لم يكن في الحسبان؛ أزمة مالية كبرى هزت ديمقراطيات الغرب كله. استيقظ الناس على وعي جديد بأن الديمقراطية سراب خادع، وأن رجال المال والسياسة استغفلوهم لتحقيق مصالحهم على حسابهم؛ تيقنوا أن الفئة الحاكمة وبالتعاون مع رجال المال، سرقت أموالهم، وضللتهم سياسيًا، وكان ردهم الطبيعي في صناديق الاقتراع؛ فالاقتراع هو قلْبُ الديمقراطية؛ لأنه يجسد إرادة الشعب لتقرير مصيره. فالإرادة الشعبية هي الثابت في الديمقراطية الذي يغير كل شيء ولا يتغير.
وكما نعرف، ليست الديمقراطية مجرد كيان إجرائي؛ بل أيضًا كيان قيمي يتضمن مبادئ ومُثلًا وتصورات؛ لكن هذه المُثل والمبادئ محكومة بالتغير والنسف والإبقاء بفعل إرادة الشعب. فالديمقراطية فيها عنصران مهمان: الثابت إرادة الشعب، والمتغير القيم والمبادئ. وتتبدى إرادة الشعب في الانتخابات كوسيلة وحيدة لقياس رغبات الناس، وتحقيق إرادتهم؛ لكنها تتطلب، لكي تحقق هدفها، وعي الناخب وتبصّره، وحيادية السلطة، ونزاهة الإجراءات المتبعة. ولا يكفي، عند الحديث عن الوعي، مستوى الثقافة كمعيار دقيق للحكم على الديمقراطية بأنها متعافية؛ لأنه قد تكون للشعب ثقافة وحضارة، ومع ذلك تمرض الديمقراطية، وتضطرب مجتمعاته. السبب الأوحد في هذا الخلل هو الإيمان الراسخ بأن إرادة الشعب مقدسة، مهما كان نتاج هذه الإرادة.
أعادت الأزمة المالية بالذات إلى الأذهان مخاطر الثابت في الديمقراطية، وقدرته على لبوس العنف والتطرف. ففي المدرج الروماني، كمثال، كان قيصر روما يستجيب لإرادة شعبه، فيترك الأسود تنهش أجساد الأسرى والعبيد وسط تصفيق الناس وتهليلهم: «عاش القيصر». وكانت إرادة الشعب الألماني حتى زمن قريب أن يفتك هتلر بالأقلية اليهودية، ويرتكب إبادة جماعية! ففي الديمقراطية لا توجد مُثل وقيم ثابتة؛ بل كل شيء فيها نسبي، وخاضع للنظر؛ فالتمييز على أساس اللون كان حتى عقد الستينيات طبيعيًا في أميركا، وحتى وقت قريب في جنوب أفريقيا، وكان النظام العنصري يلقى الدعم والتمكين من الأنظمة الديمقراطية الغربية؛ لكن الإرادة الشعبية تغيرت في الثمانينيات، وأصبحت ترى في الاسترقاق مهانة إنسانية، وأصبحت تنادي بقيم سامية، تؤكد أنها عالمية وليست نسبية. هكذا نجد أن المُثل والمبادئ تتغير بينما تبقى الإرادة الشعبية فاعلًا ثابتًا؛ هنا بالذات مكمن الخلل.
قلبت الهجرة إلى أوروبا، وانتخاب ترامب، والأزمة المالية، وصعود الصين وبوتين، مجددًا الإرادة الشعبية، وأزاحت منظومة القيم الأوروبية الإنسانية. في المجر على سبيل المثال، استخدم رئيس الوزراء فيكتور أوربان خطابًا عنصريًا وطائفيًا لتحريض الناس على مبادئ الديمقراطية، ولدفعهم باسم آلية الديمقراطية للتصويت له. وفي إيطاليا حرض اليمينيون المتشددون واليساريون المتشددون الناخبين على قيم الديمقراطية، واستخدموا الناس ليصوتوا لهم من أجل قلع الديمقراطية من جذورها. وفي ألمانيا التي كانت دائمًا مصدر الحروب في أوروبا، عاد اليمين المتطرف لاستخدام صناديق الاقتراع لذبح كل ما هو جميل في الديمقراطية. وفي بريطانيا تصل رسائل لنواب مسلمين تحذرهم بأنهم أجانب، ويجب أن يعودوا لبلادهم. في كل هذه الظواهر تظهر القومية المتطرفة، والمذهبية المقنعة بأبشع صورها.
القومية المتطرفة تعيد الناس إلى بدائيتهم، وتقنعهم بأن خيرات البلد لهم وليست للأغراب، وتنسج هوية خيالية جامعة تستبعد الآخر بسبب لونه أو عرقه. ولا تقل المذهبية خطورة عن القومية؛ بل إن وجودهما معًا يولد مزيجًا قاتلًا؛ ففي روسيا وتحت إشراف بوتين، عادت القومية السلافية المرتبطة بالكنيسة الأرثوذكسية، ومعهما بدأت شعوب أوروبا الشرقية تتطلع لموسكو، وشعوب المتوسط إلى بوتين كحامٍ للمسيحيين! وفي أوروبا الغربية أصبحت المذهبية المتخفية شعارًا لشيطنة الإسلام، وللتخويف من خطره الكامن على ثقافة أوروبا وبنيتها الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا الجو المشحون تتحول الديمقراطية من حال إلى حال، ويستخدمها شعبويون للنفوذ إلى الإرادة الشعبية واستعبادها، ومن ثم تسخيرها لأهدافهم المشبوهة.
فالقوميون والمذهبيون يهيِّجون الناس ضد الديمقراطية الليبرالية، بنموذجها المطبق بعد الحرب العالمية الثانية، ويقنعون الفئات الشعبية الفقيرة، وحتى المتوسطة، بأن أزمتها الاقتصادية، وتدفق اللاجئين، سببهما الأوحد الليبرالية بقيمها ومبادئها الإنسانية، وأن الحل هو أن يذهب الناخبون لصناديق الاقتراع ويحملون إلى السلطة المنقذين القوميين المذهبيين. ولأن السلطة لها بريقها يكثر الطامحون، ويتنافس في التطرف حتى المعتدلون، لينالوا أصوات الناس، فنرى – كمثال – رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، الليبرالي توني بلير، يطالب لوقف انتشار اليمين المتطرف بالتخلي عن التعددية الثقافية، وأن تستبدل بها الثقافة الأحادية. يضحي بلير بقيمة أخلاقية ليواجه المتطرفين!
في كل هذه التبدلات، تظهر الإرادة الشعبية كثابت لا يتغير في النظرية الديمقراطية، وتعلو الإرادة على القيم والمثل والمبادئ، وتملك كذلك الشرعية لتغييرها، ولو كانت قيمًا ثابتة طبيعية أو مقدسة. فالإرادة الشعبية كما شرَّعت أيام الرومان تمزيق أجساد أسرى، وبررت لهتلر قتل اليهود، ستشرِّع حتمًا في زمننا لمذابح أخرى، ما دام عوام البشر تحكمهم غرائز، والطامحون لا حدود لطموحاتهم، وما دامت إرادة الشعب مثل إرادة الله!
حذر أفلاطون قبل آلاف السنين من أن الديمقراطية تطلق غرائز العوام، وتجلب الفوضى والاستبداد؛ ولكيلا نكرر مأساة سقراط، أو مجازر هتلر، علينا أن نحول الثابت فيها إلى متغير، والمتغير إلى ثابت على شرط أن لا يسود المعلم وبساسه.
مستشار قانوني