خلال الأربعين عامًا الماضية، عانت السعودية من آفات ثلاث: الأولى (الفساد المالي) الذي أهدر كثيرًا من موارد الدولة، ولا يزال العالم يتذكر تلك الفترة التي سميت مجازًا ( أيام في الريتز)؛ حيث نفذت حكومة خادم الحرمين الشريفين وعودها وحربها على الفساد بعد أن شكك الجميع في مضي الدولة نحو هذا الاتجاه.
الآفة الثانية هي (الفساد الفكري) الذي أدى إلى تقسيم المجتمع مابين متشدد يمقت الحياة ولا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته، وآخر يدعم الانحلال ولا يرى للحرية سقفًا، ويخالف المتطرف حتى لو أدى ذلك لأن يدعو (لأبي جهل) بالرحمة!، و ثالث عنصري يطالب بتقسيم المجتمع على أسس جاهلية، ورابع صار (مهرجًا) يقفز من فئة لأخرى، ويتبع مصالحه، وكيف ينميها، وخامس بات محتارًا لأية فئة ينتمي فالتزم الصمت! وقد تصدت الدولة لتلك الفئات بالتذكير بالتشريعات والأنظمة التي تجرم العنصرية والتعصب وبث الكراهية، وثالثة الأثافي (الفساد الإداري) الذي لا يزال حتى الآن بحاجة لمشرط الدولة لاستئصال كل ما من شأنه تأخير عجلة النمو والتقدم لهذا البلد.
نحن في السعودية حبانا الله بنعم لا حصر لها، وقيّض لنا حكومة سخرت كل إمكانياتها لتنمية الوطن ورفاهية المواطن، ويحز في أنفسنا ما نراه من تقصير في الكثير من إدارة المشاريع من حيث مدة التنفيذ أو طريقة التنفيذ أو استلام المشروع بعد التنفيذ (لن أتطرق في المقال للتكلفة المالية للمشاريع).
علي سبيل المثال، ليس مستغربًا ما اقتطعته جامعة حكومية في (الرياض) من ميزانيتها لإنشاء بوابات على مداخلها، لكن الغريب أن يستغرق مشروع إنشاء تلك البوابات أكثر من ثلاث سنوات، أعمدة حديدية (نصبها) المقاول أمام صرح جامعي يفترض أنه يعلم الأجيال أسس الإدارة على اختلاف أنواعها (الهندسية والمالية والمشاريع)، فإذا بهذا الصرح يضع أمام الطلاب نموذجًا حيًا في كيفية (…)، ناهيك عن (التلوث البصري) الذي سببته تلك الأعمدة في عاصمة العرب.
مشروع آخر لم أرَ له نظيرًا حتى الآن، إذ لا يقبل كل (ذي ضمير حي) أن يستغرق تنفيذ مشروع (تركيب ) مظلات حافلات النقل العام أكثر من سنة، هذا المشروع بالإضافة لما سببه من تشويه للشوارع، فقد زاد من اختناق شوارع العاصمة السعودية المختنقة أساسًا؛ حيث بدأ المقاول أعمال الحفر والتكسير بسرعة البرق (نصف رمضان 1439هـ)، ووضع الحواجز الأسمنتية بسرعة الرعد، ثم تابع سير العمل بسرعة السلحفاة! نحن الآن في (رمضان 1440هـ) دون أن ينتهي هذا المشروع (العملاق) الذي أطالب الجهات المنفذة له بتقديم طلب لتسجيله ضمن كتاب (غينيس للأرقام القياسية) أو التنسيق مع قناة (ناشيونال جيوغرافيك) لتعرضه كأحد المشاريع العملاقة التي تبثها!
التخطيط المبكر والتنسيق مع الجهات الأخرى ذات العلاقة من أساسيات إدارة المشاريع، ومع ذلك نجد كثيرًا من المشروعات قد تم تنفيذها ثم التراجع عنها أو تعديلها (بعد التنفيذ) بسبب عدم التنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى مثل ما نراه كثيرًا في شوارعنا من أعمال الحفر والتمديدات التي (تبدأ) بمجرد الانتهاء من رصف وسفلتة شارع جديد!، أما كان بالإمكان التنسيق بين الجهات المعنية قبل تكرار أعمال الحفر والردم والرصف؟ مثال آخر ما نراه من إغلاق بالحواجز الأسمنتية لبعض المداخل والمخارج للطرق والشوارع (الجديدة)، فأين التنسيق بين مسؤولي التخطيط في النقل والمرور وغيرهما من الجهات المعنية؟ للإحاطة كثير من التعديلات (لا علاقة) لها بأعمال قطار الرياض، ومن الملاحظات أيضًا ضعف التدقيق عند الاستلام وعدم الالتزام بأساسيات الأمن والسلامة (كما في بعض طرق العاصمة السعودية وما حولها)، وأتساءل ألا يوجد جهة مختصة لمراجعة إجراءات التسلم الابتدائي والنهائي وما يتم خلالها؟
إن المتابعة الدقيقة بالتفصيل وعدم الاكتفاء بتقارير الإنجاز والعروض التوضيحية في الاجتماعات لكبار التنفيذيين هي العلاج (لتأخر إنجاز) معظم مشاريع الدولة، كما أن تقوية العلاقة بين مكتب إدارة المشروعات بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية والأجهزة الإعلامية، وأجهزة مكافحة الفساد الإداري يعد أمرًا ضروريًا حتى تعمل جميعها على (كشف ونشر) ومتابعة حالات التقصير في الإنجاز؛ بهدف نقل الصورة واضحة لولاة الأمر عما تحققه أجهزة الدولة من إنجازات حقيقية (لا ورقية).
خاتمة:
مشاريع الدولة بحاجة ماسة إلى حملة تشبه ( ليالي الريتز)؛ لمكافحة الفساد الإداري الذي حول قطاعاتنا إلى دب قطبي شديد السمنة ينقل قدمًا، وينتظر وقتًا حتى ينقل القدم الأخرى.
لابد من غربلة إنظمتنا بشكل كامل والبعض منها يحتاج لتغيير جذري ولعل وزارة المالية تغير نظام ترسية المشاريع .
مقال جميل وهادف سلمت يمينك .