قبل أسبوع وبالتحديد قبل فجر يوم الجمعة الموافق لرابع أيام عيد الفطر ١٤٤٠هـ ومع نهاية الثلث الأخير من تلك الليلة الباردة وقبل ان تشرق شمس يوم الجمعة غربت شمس والدتي الغالية التي كانت الملاذ الوحيد بعد الله لنشعر بالأمن النفسي والاجتماعي الذي ينشده كل الناس من خلال أمهاتهم بالدرجة الأولى وآبائهم بالدرجة الثانية مجتمعين أو منفردين مصداقاً للحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ” جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ فقال : أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال ثم من ؟ قال أمك قال ثم من ؟ قال : أبوك ” متفق عليه .
وهنا يبرز دور الوالدين وبالذات الأم لما عانت وتعاني من أجل زوجها وأبنائها وبالذات الأبناء من حمل وولادة وتربية وإيثار وحنان لا ينقطع ولاشك أن للوالد شأنه إذ لا يقل دوره عن دور الأم ولكن مع اختلاف المعاناة ولذلك أكد الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأتم التسليم على الصحابي بأن الأم هي الأحق بالصحبة والمودة وجعلها في المرتبة الأولى ثلاث مرات لعظم شأنها ونظرا لما تحملته من الآلام والمشاق وما كابدته من أجل أبنائها إذ حملت كرها ووضعت كرها ولم يثنها ذلك عن السهر عليهم ومتابعة نموهم وإطعامهم والعمل على راحتهم على حساب مشاغلها الأخرى وعلى حساب صحتها وكل ذلك يهون عندها عندما ترى أبناءها يتمتعون بالراحة في جميع مراحل حياتهم ولم يتوقف اهتمامها بهم مهما كبر سنهم تعتبرهم وكأنهم لازالوا في المهد صغارا لا فرق بينهم عندها في العطف والحنان .
بقدر الأسى والحزن العميق الذي خيم علينا وعلى منازلنا وأسرنا ونال منا ما نال إلا أنني ولله الحمد أشكر الله الذي أحسن خاتمتها إذ صامت رمضان الفائت كاملا وصلت التراويح رغم تقدمها في السن الذي يناهز التسعين عاما ومع هذا فعاشت بكامل قواها العقلية وحواسها كانت تصوم الأثنين والخميس وأيام البيض وكانت تقوم الليل وكانت تتصدق خفية وتكفل أيتاما وساهمت في بناء مساجد في مكة المكرمة والباحة وحفرت آباراً خارج المملكة وكانت من النساء المجاهدات علينا لأكئر من نصف قرن بعد وفاة والدي- يرحمه الله – لم يرهقها التعب وشظف الحياة وقسوة الزمان وجوره إلا أنها كانت تثبت الأمومة بجميع معانيها حيث وقت وفاة والدي كانت مرضعة لشقيقي “غرم ” في الأشهر الأولى من عمره ومربية لي ولشقيقتي الصغرى ذات السنوات الأولى من عمرها وكان عمري وقتها قرابة عقد ونصف مع أواخر المرحلة المتوسطة التي درستها في الظفير مشياً على الأقدام لمسافة تقارب العشرين كيلا ومع هذا فقد ثبّتنا الله وعشنا بين مد وجزر على الكفاف مثلنا مثل غيرنا لا فضل لأحد علينا غير فضل الأم بعد الله سبحانه إذ قمت – رغم صغر سنّي وحالة اليتم المبكرة من موت الأب – إلى جانب والدتي على تربية أشقائي حتى انفصلا عنّي بعد أن أغناهما الله من فضله ولله الحمد .
لقد توفيت والدتنا ونحن بارّين بها وهي راضية عنا وعن أسرنا تمام الرضى لا يفتر لسانها من الدعاء لنا ولأهلينا ولأبنائنا وبناتنا كانت ذات صفات نادرة لا تفارق محيّاها الابتسامة الصادقة في كل حالاتها حتى في أوقات مرضها ومراجعتها للمستشفيات وذلك بشهادة الأطباء الذين أشرفوا على تنويمها وإجراء بعض العمليات لها في مستشفى الملك فهد بالباحة ومدينة الملك عبد الله الطبية بمكة المكرمة ومستشفى الحرس الوطني بجدة في أوقات سابقة بعيدة عن حالتها وقت وفاتها – يرحمها الله – إذ كانت بأتم صحتها تتأهب للمشاركة في زواج بنت شقيقي في نفس اليوم الذي ودعتنا فيه وهذا من حسن الخاتمة لها التي يتمناها كل مسلم أن يموت وهو بنفس الطريقةوالحالة التي قُبضت روحها الطاهرة فيها يوم الجمعة .
وهنا لابد من إرسال بطاقات شكر لمن وقف وساندنا أثناء علاجها في المستشفيات التي ذكرتها سابقا ولمن قدّم لنا جهدا مشكوراً عليه عند وفاتها ومراسم تشييعها إلى مثواها الأخير- غفر الله لها – من الأقارب والأرحام والأصدقاء وبخاصة أهالي قريتي ” الدارين ” كافّة الذين وقفوا لمدة ثلاثة أيام متتالية وهم يستقبلون المعزّين من محافظين ومسؤلين وشيوخ قبائل وأعيان ومواطنين توافدوا لتقديم واجب العزاء والدعاء بعد الصلاة عليها في جامع القرية بحضور المئات من قبيلة بيضان والقبائل القريبة والمشاركة في الصلاة والتشييع والدفن وألسنتهم تلهج بالدعاء لها بالرحمة والمغفرة ولنا بالصبر والسلوان كما أشكر كل من واسانا من خارج المنطقة وأخصّ بالشكر صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن محمد بن سعود وكيل إمارة المنطقة الأسبق وأبناءه ومعالي سفير دولة الكويت الشقيقة الأخ الكريم علي الخالد الجابر الصباح ومعالي سفير دولة فلسطين الشقيقة وأعضاء السفارة والجالية الفلسطينية على لسان سفيرهم الأخ الكريم باسم عبد الله الأغا وعدد من أعضاء مجلس الشورى وبعض المستشارين إلى جانب المسؤلين الأنقياء بالمنطقة وعدد من أصحاب الفضيلة المشائخ والمسؤلين في مركز الحوار الوطني بالمملكة والمحافظين وشيوخ القبائل سراة وتهامة والإعلاميين الأوفياء ورجال الأعمال والتعليم والأعيان ومن اتصل من المثقفين من داخل المملكة وخارجها وعدد من رواد الكشافة في المملكة ولكل من زارنا في منزلنا طيلة الأسبوع الفارط داعين الله أن يجزل للجميع الثواب ويكتب لهم الأجر ولا يريهم مكروهاً والله يتولى الجميع بعنايته ..