يحتوي التُراث على معالم تاريخية متنوعة الأشكال، وهي تشير إلى ركائِز توضَّح هوية ثقافات الشعوب، ولا ريب أن التوقف أمامها وتأملها أدبيًا وفنيًا وتشكيليًا يؤدي إلى توضيحها وإبراز قيمتها الجمالية، والتعرف على ملامحها ومن ثُم يتمكن الناظر من تذوقها الفني.
العمل الجداري المُرفق جزء من غُرفة من قصر قديم عفي عليه الزمان، و هو قصر الخليفة الأموي هُشام بن عبد الملك القرشي، ولد في مدينة دمشق وتوفي في منطقة أريحا (71هجرية- 125هجرية) (691م-743م)، عُثر على بوادر ملامح القصر سنة 1873 على بعد نحو بضعة كيلومترات من مدينة أريحا بفلسطين. اكتشف عالم الآثار العربي الفلسطيني ديمتري قسطنطين باراميكي (1909-1984) بقية أجزاء من القصر ما بين عامي 1934 و1948 ولقد ظلت قطع الآثار في بداية الاكتشاف غامضة؛ نظرًا لكونها مُحطمة ومُتناثرة وغير كاملة ولقد رجّح العلماء أن القصر مُحتمل أنهُ تعرض للانهيار وسقوط أجزاؤهُ من أثر زلزال حدث في المنطقة سنة 747 ميلادية، فلمّا عُثِرَ بين أنقاض الآثار على صخرة عليها نقش اسم الخليفة الأموي هُشام بن عبد الملك القرشي زال الغموض، وعلى هذا تم إعلان نسب القصر إلى الخليفة هُشام، ولقد أقر عالم الآثار البريطاني روبرت وليام هاميلتون (1905-1995) في فترة زمنية أُخرى أن هذا القصر ربما هو قصر الخليفة الوليد بن اليزيد (90هجرية- 125هجرية) (709م- 744م) ابن شقيق الخليفة هُشام؛ وذلك نظرًا لشُهرتهُ بثراء وبزخ الحياة التي كان يعيش فيها، و هذا ما يتطابق مع ثراء قِطَع ْآثار القصر المُتبقية والتي تحتوي على تماثيل وقطع نحت رائعة الجمال وقِطْع نحت تتميز بخيال إبداع فني جميل ونُقوش مُدهشة، وبقايا من فن العمارة ذات أصالة عريقة، فضلًا على أرضية القصر بمساحتها الشاسعة التي بلغت نحو 825 مترًا مربعًا غُطيت جميعها بقطع فُسيفساء بديعة الأشكال والتكوينات والألوان، وهي تُعِدْ أكبر مساحة فُسيفساء عثر عليها الآثاريون في العالم.
أخيرًا، صَنّف عُلماء الآثار أن القصر للخليفة هُشام بن عبد الملك القرشي ثم استكمل بناؤهُ خليفتهُ الوليد بن اليزيد وأنه بُني نحو النصف الأول من القرن الثامن الميلادي.
يحتوي العمل الجداري المُرفق على جدارية أرضية أحد غرف القصر، كان يستخدمها الخليفة هُشام وربما الخليفة الوليد من بعده كأحد الحمامات. المعلوم أن الحمامات العربية كانت تُمْثِل مكانًا يتميز بالهدوء يتزين بالزخارف والتماثيل والتصاوير بأساليب بديعة الإتقان فبطبيعة الحال يدعو زائريه إلى تأملها، ومن ثُم يرتقي مدى التذوق الفني لدى الناظرين. ولقد لاحظنا أن الجدارية الأرضية لحمام القصر هي الوحيدة التي تتميز بأسلوب تشخيصي بخلاف قطع النحت والزخارف البارزة والغائرة المُتناثرة هنا وهُناك، أما بقية أرضية القصر فجميعها مُغطاة بقطع فُسيفساء مُستوحية من أشكال هندسية وهي جميعها مُتشكّلة بدقة مُدهشة مما توحي بتذوق فني عالٍ سواء في براعة الفنانين وأداء التقنية أو جمهور متذوقي هذه الفنون.
لم يعثر الآثاريون على اسم مُصمم العمل الفني أو المعماري، ومن ثم يُعتبر مُصمم العمل مجهول الهوية، وإنما ذُكر في كتاب (إسلام، فن وعمارةIslam, kunst en archietectuur,art director Peter Feierabend, 2004 )، أنه عُثر على شكل تُفاحة وسكينة منقوشة بكيفية معينة أوحت لعلماء الآثار بأنها قد تكون توقيع المُصمم، ولقد عثروا خلال البحث في مناطق أُخرى بالصدفة على شبيه لنفس الشكل على واجهة بناء المسجد الكبير بدمشق، مما رجّح العُلماء ربما كان هذا توقيعًا مخفيًا أرادهُ مُصمم البناء أو مُصمم تصميم الفُسيفساء، لم نرَ صورة نقش التُفاحة والسكين المذكورتين، على أي حال لا نفهم سبب إعلان توقيع اسم مُصمم التصميم بالإخفاء.
كما يبدو من التواريخ كانت تقع تلك الفترة الزمنية تحت حُكم الدولة الإسلامية في زمن الأمويين؛ حيث اتدت في مساحة شاسعة من الهند شرقًا إلي فرنسا غربًا. شَيّد الخليفة هُشام بن عبد الملك القرشي قصرهُ ابتداءً من سنة 90 هجرية وةستغرق في بناء القصر بضعة سنوات. وهي فترة زمنية بعد مرور نحو ثمانين سنة من فتح مكة، مما يدُل ذلك أنهُ بعد أن تم القضاء على التماثيل والأصنام مع فتح مكة نحو العام الثامن من الهجرة (عام 630 ميلادية) بهدف خشية العودة إلي العبادة الوثنية، عاد استخدام الأسلوب التشخيصي مرةٌ أُخرى في مجال التصوير ومجال النحت في فترة حُكْم الأمويين وما بعد ذلك وربما أيضًا ما قبل ذلك، ولكنها جاءت كما يبدو من مُشاهدة مُحتوى العمل الجداري المُرفق من مُنطلق مُحاكاة تأملية تشكيلية في الحياة و الحكمة الإلهية.
يتكون العمل الجداري المُرفق من شكل شجرة وضعها المُصمم في مُنتصف المساحة، ثم صوّر أسفل الشجرة يسارًا شكل لغزالتين تداعب أوراق الشجرة، وعلى الجانب الآخر يمينًا شكل أسد ينْقْض على غزالة، ولقد شكَّلَ المُصمم الشجرة من وريقات متنوعة الألوان فبدت أشكالها كأنها على شكل نافورة َينبثِق منها ماء الحياة من مُنتصفها يتناثر ماءها في جميع الاتجاهات، استخدم المُصمم ألوان قِطْع الفُسيفساء لتشكيل وريقات الشجرة بلون أزرق (سيان) يميل إلى اللون التركوازي وضعهُم بدرجتين أزرق فاتح وأزرق داكن، ثم استخدم درجة أزرق أكثر دكانة من أجل إبراز إيحاءات ظِلال وريقات الشجرة، وترى بعض وريقات الشجرة لونها أصفر أُكر، ثُم نَثَرَ على أنحاء واجهة الشجرة ثِمار فاكهة بلغ عددها خمس عشرة تُفّاحة وضعها مُتفرقة حيث أخرجها تشكليًا بدرجتين من اللون البني الداكن والفاتح فإن تأملها المُشاهد توحي له؛ كأنها مُجسمة ثم أحاط الأشكال جميعها بخلفية من قطع أحجار فُسيفساء ذات لون أبيض يميل إلى اللون الوردي. أما تشكيل الحيوانات فلقد استخدم المُصمم في تشكيلها قِطع أحجار فُسيفساء ذات ألوان ترابية، لون بني داكن ولون أصفر أكر بثلاث درجات داكنة وفاتحة، وربما استخدم أيضًا ألوانًا أُخرى متنوعة.
وضع مُصمم العمل مُحتويات المشهد جميعهُ في تكوين مُنسّق جميل في شكل (تماثُل) على هيئة ميزان أو ربما على هيئة شكل تاج ملك يحتوي شجرة الحياة؛ حيث يتفرع منها تضادان أحدهما يرمز إلى السلام وهو المُتَمثِل في الغزالتين على يسار الشجرة، والآخر يرمز إلى الصراع والمُتَمثل في شكل انقضاض الأسد على الغزالة، وعلى هذا يكون الملك وخليفتهُ هو الذي يفصل بين ما هو سِلْمي وما هو مُتصارع ومن ثُم يرمز لمفهوم حكمة الحياة خلال تضادين وهما الخير والشر والخطأ والصواب والعقاب والثواب.
فنان وناقد تشكيلي