أدى انتشار القنوات الفضائية بتوجهاتها المختلفة، إلى حاجتها لمختصين يتناولون بالتحليل والاستشراف مايخص مجالات عدة رياضية، وفنية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية، وإستراتيجية.
وطغت شؤون السياسة على أغلب القنوات الفضائية نتيجة لتسارع الأحداث الوطنية والإقليمية والدولية وتداخلها في أحايين كثيرة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هذه القنوات تخدم توجهات ملّاكها، أو من يمولها وبالتالي تسعى لتقديم وجهة نظره والدفاع عنها إما بطريقة ذكية ومهنية، أو بطريقة بدائية ضررها أكثر من نفعها.
لذا بدأت تظهر برامج حوارية ذات توجهات سياسية، بالإضافة إلى ما يناقش في نشرات الأخبار، أو البرامج الخاصة، التي تتطلب استضافة محلل سياسي أو أكثر للتعليق والتنبؤ بما آلت إليه الأحداث، وتطوراتها.
ارتفع تبعًا لذلك عدد من يخوض في التحليل السياسي، ولعل القنوات الفضائية شريك رئيس في الوصول إلى هذه المرحلة، من خلال استضافة وترميز بعض الأشخاص لسبب أو آخر، وهذا يثير تساؤلات حول ماهية التحليل السياسي وأدواته وأبرز مبادئه ومهاراته.
فالتحليل السياسي في أبسط صوره هو تفسير وتفكيك ظاهرة معينة، أو حادثة وقعت أو حديث قيل، وهنا يبدأ دور المحلل بعصف ذهنه ووصف المشهد السياسي من خلال استطاعته الإجابة عن من؟ وماذا حدث ؟ ومتى حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وماهي العوامل الفاعلة في المشهد؟ وماهي مصالحها؟ ومن يمولها؟ وماذا ستستفيد، ؟وما هي استراتيجيتها؟ وماهي أيديولوجيتها، ومن المستفيد؟ ومن يدفع الثمن؟ وماهي حاجاتهم النفسية والاجتماعية؟ كيف يفكرون؟ ومن هو المؤثر سلبيًا أو إيجابيًا على مسار الأحداث؟ ومن يملك القوة والقرار في التأثير؟ وما هو المستقبل المتوقع؟
فالتحليل السياسي هو عملية البحث في الاحتمالات المتعددة التي تخفى على المتابع العادي، خذ على سبيل المثال حادثة الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج خلال الشهر الماضي، وأجب عن التساؤلات السابقة، من خلال منهجية علمية قائمة على التفكيك، ثم التوصيف، ثم التركيب والربط بين الأحداث للوصول إلى نتيجة واقعية ومقبولة.
وبهذه المنهجية يصبح التحليل السياسي معينًا لمتخذ القرار، بل وجزءًا من العمل السياسي اليومي الذي تسترشد به الحكومات، في معالجة مختلف قضاياها المحلية، والإقليمية والدولية.
وهنا يثور تساؤل مشروع؛ هل لدينا في عالمنا العربي من يعمل بتلك المواصفات، ويتم الاسترشاد بما يقوله ويكتبه؟ والإجابة هي وجود عدد ممن يمتلك القدرة والعلم واستشراف المستقبل، ويتمتع بالمقدرة على التحليل والتفسير، للأحداث والتحركات المحلية والإقليمية، والدولية، مع توافر عنصر في غاية الأهمية و أهم أسلحة التحليل السياسي المتمثل في امتلاك المعلومة من مصدرها، والقدرة على التعامل معها، والحرية في استعراضها.
لذا يشبه البعض المحلل السياسي بالمحامي الذي لا يستطيع أن يكسب القضية الموكلة إليه، مالم يكن في الدائرة الواسعة أو الضيقة من دوائر المطبخ السياسي، ومما يعين المحلل السياسي على أداء عمله بكفاءة تنوع المصادر وتعددها والتأكد من مصداقيتها، ومعرفته بنظريات العلاقات الدولية، والمدارس السياسية والفكرية، وسلوك الدول والجماعات والأحزاب، وتأثير الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا على السياسة، وامتلاك حظ وافر من المنطق السليم، والعقل الراجح والهدوء وعدم استفزازه من الطرف الآخر، وتقبل الاختلاف ووجهات النظر الأخرى، وألا يعتبر المحاورات واللقاءات حلبات مصارعة يسعى من خلالها لجذب الأضواء والبحث عن الشهرة، حتى لو تحول إلى مادة إعلامية ساخرة، كما يجب على المحلل السياسي الابتعاد عن اللغة العاطفية وعن الحماس والتضخيم والتبسيط والمبالغة في ضرب الأمثلة لتأكيد رأيه، وتجنب الأساليب الخطابية والبلاغية، والحذر من إطلاق الاتهامات دون أدلة واضحة، أو إصدار الوعود وتحديد مدة زمنية مالم يكن هناك ما يدعم ويؤيد هذا التحديد.
وأخيرًا؛ التسلح بالتدريب على المحاورة والإقناع، وضبط النفس، والمتابعة الدائمة للأحداث فالمحلل السياسي الناجح هو من يعيش داخل دائرة الأحداث ولا يخرج عنها.