أحمد سعيد مصلح

صحافتنا الورقية والإتجاه المعاكس

الصحفي المتجول

لم يكن الإنهيار الذي شهدته صحافتنا الورقية مفاجئاً للجميع بل كان أمراً متوقعاً حدوثه منذ عقد ونيف من الزمن .. فجميع المؤشرات سواءً المحلية أو العالمية كانت تتوقع إنتهاء دور الصحف الورقية إلى الإبد وإحالتها إلى التقاعد بعد أن وجد البديل عنها من التقنيات الحديثة وعلى رأسها الصحف الإلكترونية وغيرها من وسائط التواصل الإجتماعي – حيث كان ناقوس الخطر يدق ويحذر من هذه الكبوة الخطيرة لصحافتنا الورقية التي تكاد تكون في ذمة الله الآن – وحسب المثل الذي يقول إسألوا مجرباً ولاتسألوا طبيب فقد كنت أحد المعاصرين لصحافتنا الورقية منذ أكثر من أربعة عقود زمنية بدأتها خلال عصر الأفراد كمتعاوناً وتفرغت إليها في عهد المؤسسات أو مانطلق عليه بالعصر الذهبي وموسم الإزدهار بالنسبة للصحف الورقية وغادرتها بحمد الله قبيل موسم الإنهيار ودخولها في هذه الغيبوبة بعد وعكة ألمت بها لسنوات وفشل علاجها – وأثناء عملي في بعض الصحف الورقية حينذاك كمتفرغاً وكتجربة شخصية لي تنبأت وغيرى من العاملين في هذا المجال بهذا الإنهيار الخطير نتيجة السياسة المتبعة من قبل قياديها فقد كانت كل المؤشرات والدلائل تنبئ عن حدوث هذا الوضع ولكن بشكل تدريجي – فعلى سبيل المثال لا الحصر كان عدد العاملين في كل صحيفة أبان صحافة الأفراد محدوداً جداً ولايتجاوز العشرين أو الثلاثين فرداً موزعون بين الإدارة والتحرير ويعمل غالبيتهم بطريقة التعاون وليس التفرغ في مقابل مكافآت رمزية أو بنظام القطعة – ثم جاء عهد المؤسسات الصحفية وفي البداية كان ذلك العهد يعتبر العصر الذهبي للصحافة الورقية وله(شنة ورنة) وكان الصحفي منا حينها يسير متبختراً وكأنه(الطاووس) وكان الجميع يعمل له ألف حساب مخافة السلاح الذي يحمله وهو القلم.. كما كان أعضاء المؤسسة والمساهمين في ذلك الوقت يتقاضون أرباحاً سنوية تقدر بالملايين – ثم بدأت مؤشرات (خراب بيت) الصحافة الورقية وذلك بإتاحة العمل لكل من هب ودب حتى ولو كان بدون خبرة أو دراية بممارسة العمل في بلاط صاحبة الجلالة حتى أصبحت موادها المنشورة في الآونة الأخيرة في مايسمى ب(كلام جرائد) أو أنها تنقل عن بعضها البعض– كما أن بعضهم كانت وظيفته في الصحيفة بما يسمى (البروستيج) وتكدست مباني الصحف بمئات الموظفين الذين وفدوا إليها من كل حدب وصوب ومنهم من فضل العمل في الصحافة لمصالح شخصية مثل (التسول) على حساب الصحيفة أو إعتبارها معبراً للوصول إلى وظيفة أفضل في إدارة ما بعد تلميع صورة مسئولي القطاع الذي يرغب الإنتقال إليه وبعد أن ضمن الوظيفة الجديدة غادر الصحافة نهائياً ولم نعد نعلم بأخباره وأحواله.. أما البعض الآخر فقد فضل العمل كسائق ليموزين أو بائع فصفص ولوز على أن يستمر في العمل الصحفي الذي بات لايؤكل عيشاً!! ..كما تحول العمل الصحفي من مهنة البحث والركض وراء المتاعب إلى مهنة الراحة والإسترخاء بإنتظار قدوم المادة الصحفية إلى المحرر جاهزة مجهزة وهو قابعاً في مكتبه ويكتفي بوضع إسمه على المادة الصحفية أو الحصول عليها من المواقع الإلكترونية وينسبها إليه وهكذا بدلاً من أن يركض الصحفي بحثاً عن المادة أصبحت تطارده وتبحث عنه وتأتيه إلى مكتبه بكل يسر وسهولة. ومن المؤشرات على الإنهيار وصول أعداد موظفي بعض المؤسسات الصحفية إلى أربعمائة أو ألف فرد يشارك هذا الجمع الهائل في إصدار صحيفة يبلغ عدد صفحاتها اليومية إلى عشرين أو يقل أو يزيد قليلاً – وتضاعف حجم الرواتب الشهرية عشرات المرات حتى أن بعض العاملين فيها يحصلون على رواتب فلكية تزيد في بعض الحالات عن راتب زعيم دولة كبرى – ولكم أن تتصوروا أن بعض القيادين في الصحف الورقية يحصل الواحد منهم على راتب شهري يصل إلى مائة وخمسين ألف ريال هذا عدا المميزات الأخرى أضف إلى ذلك جهل بعض قياديها بأبجديات الكتابة والطرح الصحفي وهناك من يكتب له أي(تستر صحفي)– ومن مميزات العصر الذهبي للصحافة الورقية وكتجربة شخصية هي أن الصحيفة كانت تمنح جميع العاملين فيها ثلاثة رواتب علاوة شهرية كإكرامية لشهر رمضان والحجة وبعض المناسبات الأخرى.

ومما زاد الطين بلة وأدى إلى إنهيار معظم الصحف الورقية بهذه السرعة هو المحسوبيات والمجاملات حيث تعمد بعض المسئولين فيها تعيين أقارب لهم في الصحيفة مقابل رواتب غير مسبوقة ..ومن الأمثلة على ذلك أعرف أحد أبناء مسئول في صحيفة ورقية محلية يحمل الشهادة المتوسطة ومع ذلك فقد تم تعيينه رئيساً لقسم براتب شهري قدره أربعون ألف ريال عدا المميزات الأخرى ..ومن الأسباب أيضاً التي أدت إلى إنهيار الصحف الورقية بهذه السرعة (الجنونية) التوسع في إنشاء مكاتب لها في كل أنحاء المملكة والتي تتكدس بالموظفين فأصبحت بعض صحفنا الورقية متكئاً للراحة والإستجمام..والأخطر من ذلك كله أن المسئولين فيها لم يعملوا حساباً للحالة الضبابية السوداء التي سوف تتعرض لها الصحف الورقية فأخذوا ينفقون بلا حساب حتى بلغ الأمر إلى حالة الغيبوبة الحالية التي تعاني منها صحفنا الورقية قبل إنتقالها إلى الرفيق الأعلى وقد بلغ الوضع في بعضها أنها لم تتمكن من دفع رواتب منسوبيها من المتفرغين لخمسة أشهر متواصلة بينما لم يحصل المتعاونون منهم على رواتبهم لأكثر من عام وهناك من تركوا العمل نتيجة الإستغناء عن خدماتهم لم يتسلموا حقوقهم المادية حتى الآن أو منحهم لحقوقهم بالقطارة المريحة ..ورغم ذلك فإن بعض الصحف الورقية مازالت تتمسك ببعض الأخوة الوافدين الذين يحصلون على رواتب ومزايا ضخمة شهرياً هذا عدا بدل السكن والعلاج على الرغم من أن هؤلاء الوافدين يحتلون وظائف هي مجرد تسميات فقط وليس لها أي نشاط على أرض الواقع مثل مسئول الإعلانات والعلاقات الدولية أو المشرف العام على الملاحق المحلية والدولية في الوقت الذي لاتصدر عنها ملاحق لامحلية ولادولية المهم أي كلام ياعبدالسلام!! فهل ننعي صحفاتنا الورقية قريباً أم تحدث مفاجأة التي تعيد الدماء إلى شرايينها وهذه ستكون معجزة وبإجراء عملية جراحية بالغة الخطورة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى