إن الإنسان في مسيرته الحياتية يمر بسلسلة من المصاعب والمتاعب، ويعيش فيها كالبحر المتلاطم الأمواج، فليس للحياة قاعدة ثابتة ولا وجه واحد، ومن أعظم النضج أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة، فلا حزن ومر مستمر ولا حلاوة وفرح مستمر هي بين هذا وذاك، وهكذا تسير بنا الحياة، وكما قال (أبو العلاء المعري):
كلٌّ تَسيرُ بهِ الحياةُ وما لهُ علمٌ على أيّ المَنازِلِ يَقدُمُ
ومن العجائبِ أنّنا بجَهالَةٍ .. نَبني، وكلُّ بِناءِ قَومٍ يُهدَمُ
والمرءُ يَسخَطُ، ثم يرضَى بالذي .. يُقضى، ويوجدُه الزّمانُ ويُعدِمُ.
وفي ظل هذه المسيرة الحياتية يستقبل الإنسان أنواع الدروس والعبر ويتشكل له خبرات تكتب بماء الذهب وتسطر منها أروع الحكم، إن صناعة الذات وهندسة الروح لاتأتي إلا بعد صراع مرير مع الحياة، تكون النفس قد وصلت وقتها إلى أشلاء مفتتة، وروح مكسورة لانعلم للجبر طريقًا، يعيش الإنسان حالة من الضياع والتيهان، يظل يبحث ويتعلق بقشة ترمم هذه النفس وتُعيد لها عافيتها وتوهجها، وفي توقيت مناسب يستنفر الإنسان جميع قواه؛ ليصنع ذاته التي ولِدت من رحم المعاناة، لتكون ذات أسطورية، أدركت كبد الحياة وخيباتها، وبكت دموع ذات حرقة وأنين يمزق الفؤاد، تلك الذات التي تعمقت في الحزن وتخبطت حتى يأست، هي نفسها من ستصنع نجاح ومجد، هي نفسها التي نضجت وأصبحت تملك وعيًا وإدراكًا يدرس لأجيال، هي نفسها التي وصلت إلى أرقى مراحل الإنجاز والطموح، إن أعظم هندسة يصنعها الإنسان هي لذاته ولروحه عندما يبني لبناتها، وقد استفاد من كل محطات وعثرات حياته، عندما يقلب اليأس إلى أمل والفشل إلى عزيمة والإحباط إلى طموح، وقد أدرك كل المعاني الروحية لآيات عظيمة ذكرت في القرآن الكريم ومنها: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، وقوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، وقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)
وأخيرًا، هنيئًا من القلب لكل إنسان صنع وهندس ذاته التي ظن في يوم من الأيام أنها صارت خرابًا من الآلام والمعاناة والكسور والجروح، هنيئًا لك على هذه الذات التي أصبحت مفخرة لكل ماوصلت له من إنجاز وفلاح ونجاح، أنت الآن قدوة حسنة يحتذى بها، عليك مهمة نشر الأمل والسلام والتفاول، خذ بيد كل متعثر في طريقه، أرشد كل تائه إلى الصواب، كن العون لكل إنسان متخبط، ارفع صوتك وأخبر الجميع، إن هذه العثرات هي من ستصنع منكم ماتفخرون به في يوم من الأيام، وإن كانت هي تعاستكم اليوم فهي سعادتكم غدًا “وإنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ”.