المقالات

شعرية الصمت!

عندما تحدث عبد القاهر عن بلاغة الحذف كان يتحدّث في الوقت نفسه عن شعرية الصمت، ففي مستهل حديثه عن الحذف وصفه بأنَه:”دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم بيانًا إذا لم تبن”.

والذي يظهر لي أن الشيخ، في هذا النص، ذاق حلاوة الصمت أولا، ثم تحدث عن بلاغة الحذف ثانيا، وما تأملاته النافذة إلى أعماق البيان إلا نتيجةٌ للإنصات بسكون طائر، وخلاصةٌ لسفر الخاطر الذي أكّد عليه في قراءة البيان العالي.

وتأتي شعرية الصمت من أنَّ التأمل في الأشياء إنصات طويل بحضرتها وإصغاء لما تقوله بلسان الحال للكشف عن الأضداد الكامنة في أضدادها، كوقع الماء في قلب الصخر وجذوة النار في باطن الحجر.

وقد أكّد عبد القاهر على شعرية الأضداد وألحّ عليها كثيرا في أسراره من خلال الشواهد، واستصحبها في الدلائل في تنظيره لبلاغة الحذف من خلال النص السابق.

وتبعا لذلك، أو قبله، يعد الصمت من أبرز تجليات الشعرية الصوفية قولا وسلوكا، فبحسب عبد الحق منصف،فإن الصوفي”يعيش تجربته كمنصت فقط لما يقوله الآخر”، وهذا الإنصات أولى عتبات الصمت الذي يصله بعالمه، كما عند النفري في تجربته الكتابية، حيث “لا يعني الصمت مجرد التوقّف عن الكلام، وإنما هو فقدان كل إمكانية للكلام”، وفي هذا يقول النفري في المخاطبات:” يا عبدُ لا تنطق، فمن وصل إليَّ لا ينطق”.

و هذا يقودنا إلى ضرورة التفريق بين السكوت والصمت، فالسكوت كف عن الكلام مع مراصدة العودة إليه، كما يعبّر الرماني، أما الصمت فإمساكٌ عن الكلام، لهذا يبدو الصمت ابتداء، أو أنّه فعل خارج الكلام، أما السكوت فانتهاء، أو كفٌّ عن فعل الكلام الناجز.

وعلى ذلك فالسكوت يوازي المحو في الكتابة؛ لأن المحو لا يكون إلا لطلب بديل، أما الحذف فعنصرٌ قائم بذاته في مقابل الذكر، كما أن الصمت قائمٌ بذاته في مقابل الكلام.

هكذا يمكن أن نقف على الصمت باعتباره تجربة اختيارية لشعرية الذات التي تتحقق تبعًا لها شعرية الأشياء.

وذلك هو عالم الشعر كما هو عالم التصوف، إذ يشتركان معًا في شعرية الذات، وتتحول عندهما الكتابة إلى طريقة من طرق الإنصات العميق لما تقوله الأشياء الصامتة.
لهذا يمكن القول إنه كلما اقترب المرء من الصمت اقترب من الشعر أكثر، فالصمت، فيما لو أنصتنا إليه بعمق، موسيقى أو إيقاعٌ بلغ ذروة النغم.

وهذا يعيدنا إلى ما ابتدأنا به في نص عبد القاهر للتأكيد على أن الصمت كالحذف تماما، فهو “دقيق المسلك، لطيف المأخذ” يتدرّج ويترقّى، ويدقُّ ويغمض، إلى أن تجدك “أنطق ماتكون إذا لم تنطق وأتم بيانًا إذ لم تبن”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى