دأبت إيران منذ عام عام 1980، وهو العام التالي لثورة الخوميني، على تسييس الحج، ورفع الحجاج الإيرانيين شعارات طائفية في مظاهرات أمام المسجد النبوي، ومواجهة الشرطة بالعنف لعرقلة حركة الحجاج، فيما واجهت المملكة العربية السعودية خلال السنوات الفائتة هذه المحاولات اليائسة بجهود معمارية وأمنية جبارة على المستويات كافة، سواء في التنظيم أو تفويج وتنظيم خط سير الأعداد المليونية والانتقال بهم من مكان إلى آخر بكل انسيابية وأمان، أو من خلال الإجراءات المتبعة لتأمين جميع الخدمات المعيشية لهم.
في هذا العام سخرت المملكة جهودها في عملية تطوير واستراتيجية شاملة للمشاعر المقدسة، شملت الاستمرار في توسعة الحرمين الشريفين، والانتهاء من توسعة وإنشاء مطارات ضخمة لاستقبال ضيوف الرحمن، وتوفير إدارة أمنية فاعلة ومنجزة للحفاظ على أمن الحجاج واستقرارهم، وإدارة الجموع المليونية بكل سهولة ويسر.
وأكدت وزارة الحج والعمرة في بيان صحفي خلال هذا الأسبوع مواصلة المملكة في تهيئة كافة السبل لتسهيل قدوم الراغبين في أداء مناسك الحج، وقالت إن محاولات تسييس الحج لن تثني المملكة عن تقديم كافة التسهيلات لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
إيران محاولات التسييس مستمرة
في المقابل نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”، عن مسؤول بعثة الحج الإيرانية عبدالفتاح نواب، التمسك بإقامة ما يسمى مراسم (البراءة)، زاعما أن “قضية البراءة من المشركين لا تضر العالم الإسلامي بل تؤدي إلى تقويته”، وبين أن تلك المراسم “ستجري في موسم العام الجاري”.
تجدر الإشارة إلى أن إعلان ‘البراءة من المشركين‘ هو شعار ألزم به المرشدُ الإيراني الراحل ‘روح الله الخميني‘ الحجاجَ الإيرانيين برفعه وترديده في مواسم الحج، من خلال مسيرات أو مظاهرات تتبرأ من المشركين، وترديد هتافات بهذا المعنى، من قبيل ‘الموت لأمريكا’ و’الموت لإسرائيل’؛ باعتبار أن الحج، من وجهة النظر الإيرانية، يجب أن يتحول من مجرد فريضة دينية عبادية تقليدية، إلى فريضة عبادية وسياسية.
وكان المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي جدد قبل عدة أيام دعوته لتسييس الحج، وذلك خلال استقباله المسؤولين والمعنيين بشؤون الشعيرة في إيران.
ونقلت وكالة الأنباء الرسمية “إرنا” عن خامنئي قوله إن “الحج عمل سياسي وتكليف ديني”، زاعماً أن “البراءة من المشركين فريضة إلهية”.
يقول الباحث في الإسلام السياسي مصطفى حمزة في تصريح خاص لـ(حفريات): إن هناك عدة دوافع إيرانية وراء تسييس الحج، أولها دوافع دينية عقائدية تتمثل في إفساد فريضة الحج واعتبار هذا واجباً دينياً، فحسب النصوص الشيعية فإن الحج إلى مقام الحسين في كربلاء أفضل ١٠٠ مرة من الحج لمكة، ومن قيادات الشيعة من يرى أن زيارة الحسين في يوم عرفة تساوي زيارة الله في عرشه -حسب معتقدهم، وأما الهدف السياسي فيتمثل في إحراج المملكة العربية السعودية سياسياً ودينياً من خلال المطالبة المتجددة بتدويل إدارة الحج، بدلاً من اقتصار ذلك على المملكة، وهناك هدف أخبث وراء إصرارهم على التظاهرات وهو حدوث التدافع بين الحجيج، خاصة مع مواجهة قوات الأمن السعودية للتظاهرات، بما يوقع عدداً من الوفيات التي يستخدمها نظام الملالي ذريعة لتدويل الحج وإدارة الحرمين الشريفين، بحجة فشل السعودية في إدارتهما في هذا الموسم.
من جانبها نقلت الهيئة الدولية للاستشارات البحثية عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية الوسائل والأساليب التي يسيّس بها النظام الإيراني الحج، ومنها المظاهرات، وبعض الطقوس الشيعية في الحرم المكي والمدني.
وقالت الهيئة إن إيران تصر على منح التأشيرات لحجاجها من طهران، وإعادة صياغة الفقرة الخاصة بالطيران المدني فيما يتعلق بمناصفة نقل الحجاج بين الناقل الجوي الإيراني والناقل الجوي السعودي، وإقامة دعاء ‘كميل’ ومراسم ‘البراءة’ و’نشرة زائر’، وهي التجمعات التي طالما أكدت السلطات السعودية أنها تُعيق حركة بقية الحجيج من دول العالم الإسلامي، فضلا عن كونها تهدف لإبعاد الحج عن مقصده الأساسي كفريضة دينية، والعمل على تسييسه من خلال تلك الشعائر.
هذا وأدت تلك السياسات الإيرانية إلى توالي أحداث العنف ومنها موسم الحج عام (1986): عندما أحبط موظفو الأمن والجمارك السعوديون محاولة الحجاج الإيرانيين تهريب 51 كيلوجرامًا من مادة C4 شديدة الانفجار، لاستخدامها في تفجير الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، كما أُثير ذلك في وقتها وأثبتت التحقيقات هذا الأمر.
وفي موسم حج عام (1987) وقعت اشتباكات عنيفة في 31 تمّوز (يوليو) 1987 في مدينة مكة المكرمة بين مجموعة من الحجاج الشيعة غالبيتهم إيرانيون وقوات الأمن السعودية؛ نتيجة ممارستهم مراسم البراءة، ورفع شعارات سياسية معادية لأمريكا وإسرائيل؛ حيث قامت قوات الشرطة والحرس الوطني بتطويق جزء من المسار المخطط للمسيرة ومنع المتظاهرين من العبور مما أدى إلى تشابك مع قوات الأمن. وقد اشتدت حدة الاشتباك التي وصلت إلى مرحلة العنف بعد تدافع الحجاج بقوة، مما نتج عنه مقتل 402 شخص، منهم 275 حاجًّا إيرانيًّا، و42 حاجًّا من جنسيات أخرى، و85 رجل أمن سعوديًّا، فضلا عن إصابة 649 شخصًا، 303 من الإيرانيين، و145 من السعوديين، و201 حاج من بلدان أخرى، ونتيجة لتلك الأحداث الدامية، قطعت الرياض علاقتها الدبلوماسية مع إيران، وتم تقليل العدد المسموح من الحجاج الإيرانيين من (150 ألف حاج) إلى (45 ألفًا). أما طهران فقامت بمقاطعة الحج في المواسم الثلاثة التالية، إلى أن تجددت العلاقات بين الطرفين في عام 1991 بعد اتفاق يسمح للإيرانيين بممارسة فريضة الحج مرة أخرى، ووضع حدٍّ أقصى للحجاج الإيرانيين يبلغ (115 ألف حاج)، مع السماح لهم بالتظاهر، لكن في مكان واحد تُخصصه لهم السلطات السعودية.
وأما في موسم حج عام 1989 وقع انفجاران بجوار الحرم المكي نتج عنه وفاة شخص وإصابة 16 آخرين، وألقت السلطات الأمنية القبض على 20 حاجًّا كويتياً اتضح خلال سير التحقيقات معهم تلقيهم تعليمات من محمد باقر المهري (عالم دين ووكيل المرجعيات الشيعية في دولة الكويت)، وتسلمهم المواد المتفجرة عن طريق دبلوماسيين إيرانيين في سفارة طهران في الكويت، وتمت محاكمتهم والقصاص منهم.
كما وقعت حادثة نفق معيصم الشهيرة في يوم عيد الأضحى عام 1990، نتيجة تدافع الحجاج والزحام بينهم، وبرغم اتهام بعض الأطراف الإيرانيين بإطلاق غازات سامة أدت إلى وفاة 1426 حاجًّا من مختلف الجنسيات؛ فإن السلطات السعودية حينها لم تتهم أحدًا، وقالت إنه مجرد ‘حادث عرضي’.
وآخر تلك الأحداث حادثة تدافع منى في موسم حج عام 2015، والتي نتج عنها مقتل نحو 2300 حاج أجنبي، من بينهم 464 إيرانيًّا، وهي أسوأ أزمة وقعت في مواسم الحج بعد أحداث 1987؛ والتي تستغلها إيران لاتهام السعودية دومًا بعدم القدرة على تنظيم مواسم الحج، فضلا عن سعيها لتدويل القضية، ومقاضاة السعودية أمام المحاكم الدولية في مقتل حجاجها الإيرانيين.
الباحث المختص في الإسلام السياسي هشام النجار، قال لـ(حفريات): إن إيران تخوض استراتيجية بعدة محاور لمواجهة أزمتها الحالية والمتشعبة سواء أزمة العقوبات ومساعي المجتمع الدولي لتقليص نفوذها الخارجي وتحجيم أدوارها بالشرق الأوسط أو ملفها النووي وأخيرًا أزمة النظام في الداخل، وهاجس الغضب الشعب والثورة على خلفية ملفات عديدة على رأسها الوضع الاقتصادي، وأنها ترى الهجوم والهروب للأمام وتصدير الأزمة لأراضي خصومها التقليديين سيفيدها في كسب المزيد من الوقت بغرض منحها حرية المناورة واللعب على عدة جبهاتـ ويأتي محور الحرب الدعائية كأداة من أدوات إستراتيجيتها لمواجهة أزمتها الحالية تبالتعاون مع حلفائها بالمنطقة، ومنها ملف تسييس الحج كأداة ضغط ووسيلة لاختراق مضاعف للمنطقة العربية وفرض التدخل في شؤونها، هادفة لجعل هذا التدخل أمر واقع لا يمكنها التراجع عنه تحت ضغط دولي أو إقليمي أو عربي وترى أن ذلك سيتحقق عبر شرعنة هذا التدخل وصبغه بصبغة دينية بطرح نفسها كمعادل ديني بالمنطقة في مقابل الخصم من مكانة المملكة العربية السعودية.
الحج ورؤية المملكة 20 – 30
وفي مواجهة الخطط الإيرانية لتسييس الحج أنجزت حكومة المملكة العربية السعودية أكبر توسعة للحرمين الشريفين في التاريخ الإسلامي، كما وسعت منظومة خدماتها الصحية لضيوف الرحمن لتشمل تجهيز المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية لرعايتهم، وتقديم خدمات معلوماتية وتوعوية، وتموينية.
ووفق بيان لوزارة الحج والعمرة السعودية نقلته صحيفة عكاظ فقد تم تجهيز 18 شركة نقل سعودية و18 ألف حافلة مكتملة التجهيزات لنقل أكثر من مليون و800 الف حاج من خارج المملكة، ولتسهيل الإجراءات تم استحداث خدمة المسار الإلكتروني، لتسريع ألية الحصول على التأشيرات اليكترونيا، واختصار زمن الأجراءات من بوابة الوزارة على شبكة الأنترنت،لأتمتة عمليا الحصول على تأشيرات الحج والعمرة لطالبيها، وما تشملها من الخدمات المرافقة لها، حيث تم البدء عمليا في تطبيق هذه الالية، وذلك لتسهيل حصول الحجاج على تأشيرة الحج اليكترونيا،وتقليل مدة دخول الحاج ،إذ يتيح نظام المسار الإلكتروني للحج وللعمرة إنهاء إجراءات طلب تأشيرة الحج والعمرة وحزمة الخدمات في وقت قياسي لا يتجاوز بضع دقائق ويأتي ذلك في إطار خطة طموحة لمضاعفة أعداد الحجاج والمعتمرين خلال الخمس سنوات القادمة”.
وأشار البيان الذي أطلقه المركز الاعلامي إلى إعتماد الخطة التنفيذية لتفويج الحجاج على نظام الرقابة الإليكترونية والكاميرات لرصد حركة الحشود، وتحليل القراءات الميدانية، وإعتماد آلية التوعية لأعمال التفويج وتثبيت التسجيل الفوري للمخالفات عبر التقنيات والتطبيقات المحمولة وإرسالها فوراً إلى خوادم المعلومات في وزارة الحج والعمرة وتحليل البيانات وتحديد مصادر الخلل إذا وجدت؛ وإبلاغها للجهة الرقابية.
أما في المجال الصحي فوفّرت المملكة هذا العام للحجاج تطبيق “اسعفني” و تطبيق “علاج”، اللذين يوفران منصات إلكترونية للخدمات الطبية، تهدف إلى تيسير حجز المواعيد والاستشارات الطبية وشراء الأدوية والأجهزة الطبية عن طريق متجر طبي إلكتروني، وتيسير إجراءات الخدمات العلاجية.
كما تم إطلاق تطبيق “مناسكنا” للترجمة يستفيد منه الحجاج الذين لا يتكلمون العربية ولا الإنكليزية، وتطبيق الخرائط الرقمية لمنطقة المشاعر المقدسة والمدينة المنورة التي تتضمن المعلومات المكانية الخاصة بالمباني والمنشآت والطرق والشوارع والأحياء والخدمات والمرافق العامة، إضافة إلى تطبيق “المقصد” الذي يساعد زوار مكة في تحديد مواقعهم بدقة داخل أروقة المسجد الحرام، ومعرفة طريقهم إلى أي مكان يريدون الذهاب إليه، وهذا التطبيق لا يحتاج إلى الاتصال بشبكة الإنترنت.
أما فى المسجد النبوى بالمدينة المنورة، فتعمل الحكومة السعودية على إنجاز مشروع ضخم يشمل استحداث 10 مآذن جديدة، وتنفيذ توسعة من الجهة الشرقية على مساحة 100 ألف متر مربع، وتنفيذ القباب الزجاجية المتحركة والثابتة، التى تسمح بدخول الهواء والإضاءة بطريقة هندسية حديثة، إلى جانب تركيب السلالم الكهربائية فى عدد من مواقع التوسعة، وتنفيذ الدور الثانى ليستوعب 180 ألف مصل.
ونقلت وسائل إعلام محلية سعودية، عن فاتن حسين مستشارة وزير الحج والعمرة قولها إن “المملكة ضخت 100 مليار دولار على مشاريع التوسعة الثالثة في المسجد الحرام والتي تضمنت 5 مشاريع أساسية، هي مبنى التوسعة الرئيسي وشمل تطويرا للمسعى والمطاف، ومشاريع الساحات، والأنفاق، ومحطة الخدمات المركزية، والاستمرار في (توسعة الملك عبدالله بن عبد العزيز)”.
وأشارت حسين إلى أن عملية تنظيم حركة الحجاج والمعتمرين “تعتبر أيقونة النجاح في المسجد الحرام والذي أعدت له خطط استراتيجية من خلال 7 محطات ومنافذ لنقل المعتمرين في رحلات ترددية من وإلى المسجد الحرام، ووضع مسارات خاصة لدخول الحشود وأخرى للخروج، هذا فضلا عن مراقبة أجواء مكة المكرمة من خلال طائرات هليكوبتر للتدخل السريع في حالة الطوارئ”.
الخلاصة أن إيران التي تسعى لشرعنة حضورها ونفوذها بالمنطقة العربية ومنحه بعداً دينياً حتى تقطع الطريق أمام من يطالبونها بالنكوص عن تدخلاتها وبالتخلي عن امتيازاتها ومكتسباتها الهائلة التي حققتها بالداخل العربي، بتعاون من موالين لها بالمنطقة، عبر التشويش على مكانة المملكة السعودية الدينية والروحية مقابل كسب مساحة في مسعى امتلاك نفوذ ديني مصطنع ستفشل، وها هي تصطدم بالإصلاحات والمعمار والتطور والبناء لتسهيل خدمات الحجيج.