الوطن قيمة سامقة وتجذر في النفوس ، ولا يخلو قلب من نبض يتوق إلى المحبة الصادقة ، والإيمان المطلق ، ولذا فالتغني به وإعلاء ذكره لهو شرف لا يضاهيه شرف ، لا سيما إذا كانت أرائكه السيوف وما يظله النخيل الباسق المثمر ، وعماده الاستقامة والشجاعة والاستبسال ، وقد أسعدنا -معشرَ الأكاديميين – فوز الأكاديمي الأديب الشاعر عبدالله بن عطية الزهراني بجائزة الوطن ، بفرعها القصيدة الوطنية ، وتكريمه هذا العام في العاصمة الرياض ، وقد حرّك النص شجون وقرائح الكثيرين ، بين المعارضة الشعرية للنص ، واقتحامه نقدًا ، والاحتفاء به إعجابًا .
إن النص الحي ليجذب ؛ بل يجبر المتذوق على معايشته ، والتفتيش عن مضامين الإعجاب ، ومكامن الإبداع .
إنّ الناظر لشكل النص الإبداعي ، ليجد التصاعد النغمي في علو وارتفاع ، حاله كحال الوطن ورفعته ، وقد اختار الدكتور عبدالله البحر الكامل لنظم قصيدته ، وهذا البحر في نظر النقاد من أكرم البحور وأعلاها، والناقد الحصيف هو متلقٍّ يقوم بنشاطٍ عقلي منطقي تُمْليه لغةُ النَّص الذي أمامَه، وطبيعة ألفاظه وعباراته، ولذا فهو يتعامل مع لغة نصّ كجسدٍ حيّ مركب ، والنص القيّم يحمل شحنات مشعة ، لاتزال في إضاءة وهّاجة ، والشاعر أرسل إرهاصاتٍ مبطنّة لحديث طويل ، وقصة عاشقة تمتزج بعبق التارخ التليد ، فأوّل إشارة تدفع بنا إلى التأمل تنكير كلمة ( وطن ) وما كان ذلك كذلك إلّا لبث عنصر التشويق لدى المتلقي ، ثم جاء بكلمة ( تخيّر) ليس اعتباطًا وإنما هي بمثابة لبنة وقعت في تمام البنيان ، فالوطن الذي تربّع على العرش ، من حقه التخيّر ، والتخيّر في ماذا ؟ إنه يختار العلو والطموح والتسامي ، ومع ذلك لم يكتفِ ؛ بل عزف له الزمان السلام ورفعت له في المجد أرقى وأرفع رأية ، وهذه المقدمة هي تلويح لشعرية قادمة ، وقدْ قدّم الشاعر للوطن بهذه التوصيفات لمراهنة الواقع وموازاته ، ولكنه يعود بالصورة الشعرية إلى الوراء عبر اجتلاب الألوان الداكنة لذلك المصير ، فقد جاء بألفاظ توحي بالعدم المطلق ، دهر /عاث/تفرّقا/أناخ/آلاما ، لبيان قيمة التصدّع المجتمي المعدوم ، فبات القارىء أمام صورتين : الأولى مشرقة زاهية ، والثانية : داكنة ضبابية ، للأولى التفاؤل والبقاء ، وللثانية التشرذم وقانون الغاب المؤلم ، وهذه هي حقيقة الوضع في الجزيرة العربية قبل توحيدها تحت لواء ( لا إلٰه إلّا الله ) ، وتستمر الصورة العدميّة باجتلاب ما يشي بتصوير تلك المرحلة ، فيطالعنا الخوف / الجوع / الحطام ، فصورة الخيل المنتقاة التي تركض داخل القلب ، لهي صورة طوعية متخيلة ليست مدركة ، إنما هي من جانب الاستعارة ، فقد جعل من الخوف صورة لخيل جامح يركض في القلب ، وما ذاك كذلك إلّا للمبالغة في رسم صورة تفوح منها دلالية الخوف المطلق الذي كان يعيشه المجتمع إذاك ، ومع استمرار التصوّر والقلق ، يأتي انفراج الأزمة التصويرية عبر ( لكن) الاستدراكية التي تبعث على التفاؤل الحذر ، فتأتي الألفاظ دافقة الشعور المطلق المفعم بالطمأنينة ، رعته / عناية /محبة /وئام / تدثر / النعيم / ماؤه يروي الحياة / ينبت الأحلاما ، فانتقلت الصورة إلى لونها الأخضر الوهّاج الذي يرسل إشارات إيجابية لمستقبل نابض ، والوطن ترعاه عين الله ، فيعم الأمن وتُبنى الحضارة ويزال الخوف ، وقد ذُكر الوطن على مساحة القصيدة صراحة تسع مرات ، عطفًا على الضمير العائد فقد انتشر في كثير من أشطر الأبيات فضلًا عن التلميح ، وهذا التجذر الديني والوطني ليوحي بالقيمة الهامة للشاعر ، فعندما يجتمع الشعور الديني والإيمان المطلق مع الوطنية الصادقة تنتجان نصًا نابضًا حيًا ، يسلب العقول بأسلوبه الأخّاذ ، وإذا ما نظرنا إلى الموسيقى الإيقاعية فإن الشاعر اعتنى بها أيما عناية ، فكما أسلفنا اختار بحر الكامل لنظم القصيدة ، وتفاعيله : متفاعن متفاعلن متفاعلن ، ولأن الوطن كل متكامل ، فقد توافق البحر مع قيمة الوطن التكاملية ، كما أن الوزن سلمَ من الزحافات والعلل التي قد تتخلل النص للضرورة ، وهذه لفتة جميلة من الشاعر الدكتور عبدالله ، ليسبغ على الوطن القيمة الكاملة حدًا ووظيفة ، كما أن للقافية حضورها المعنوي ، فقد اختار لها ألف الإطلاق بنوعيها الممدودة والمقصورة ، وقد حضرت المقصورة في موضعين : المكرمات تسامى / في ظله تتنامى ، أمّا البقية فهي مطلقة سامقة تتخذ من السماء بغية ومآلاً ، ولنا وقفة مع دلالة الألف المقصورة وهل تتناسب مع العلو والتمكين والرفعة ؟
نعم إنّ الناظر للألفاظ السابقة للفظتين ليدرك حجم التصاعد القيمي والمعرفي ، فكلمةً( تتسامى ) سبقت بحشد من الألفاظ مرتفعة الرتمية ، الطموح /سماء /المكرمات ، وكذلك لفظة ( تتنامى ) شهدت تزاحمًا نغميًا كثيفًا قوامه ، عين الله / أمن وارف / حضارة ، فهذه جعلت النص جوهرة إشعاعية مضيئة ، ومنهلًا عذبًا ، يقبل عليه الضمآن فيرتوي ، والصادىء فيهنأ ، ويختم النص برائعة الإيمان المطلق والعمق الديني الراسخ :
ويظل دين الله فيه عقيدة
تستنهض الأرواح والأفهاما
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وإن كان د. عبد الله أجاد في قصيدته الوطنية
إلا أن قراءتك لها زادتها جمالا ياد. نايف
ماشاءالله
في سماء وطن العز صعد بنا
د عبدالله عاليا ببحر الكامل وهانت بما في القصيدة من تصاعد قيمي ومعرفي تبحر بنا مجدد في مقدمة مقاعد اولى الحروف الف الاطلاق .