خلال هذا العقد شهدت -ولاتزال- منطقتنا الكثير من الأحداث التي فرضت على دول المنطقة، ومنها السعودية ضبط بوصلتها السياسية، والاقتصادية، والأمنية، وهذا ما دفع السعودية لمفاجأة العالم باتخاذها قرارات جريئة تعكس تحولًا مهمًا لم يعهده العالم في أولويات سياساتها وتحركاتها؛ عندما تحركت سريعًا بدفع قوات درع الجزيرة باتجاه البحرين رافضة التوجهات الأمريكية إبان الحقبة الأوبامية، ثم صدمت العالم مجددًا عام 2013 بوقوفها مع مصر ونجاحها في إعادة توجيه الموقف الغربي نحوالوضع المصري آنذاك.
واستمر مسلسل المواقف السعودية في عام 2014 عندما فاجأت العالم مرة أخرى بهندستها السياسية والاقتصادية عقب انخفاض أسعار النفط العالمي، ولأن تقوم دولة بهاتين المسألتين في غضون عامين مع ما لحق الأمر من تبعات جيوسياسية يجعل المملكة بلا شك لاعبًا ذا ثقل على المسرح السياسي العالمي،وعلى السياق نفسه يمكن إضافة المفاجأة السعودية في عام 2015 المتمثلة بإنشاء وقيادة التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن، ثم بناء التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، ثم جاءت أخيرًا جولات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد الآسيوية لكل من روسيا وباكستان، ثم الهند، والصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، ثم زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، والتي عكس الاحتفاء بها رسائل خاصة قرأها الغرب وحللها بطريقته الخاصة، كي تمثل كل هذه الأحداث تحولًا نوعيًا في بوصلة التحالفات السعودية التي اتجهت شرقًا بعكس مسارها طيلة العقود الماضية.
فهل تشير تلك الارهاصات إلى تحول جديد في مرتكزات السياسة الخارجية السعودية، والتي لم تعد تخطئها عين المراقب؛خصوصًا بعدما تبلورت واتضحت معالمها خلال السنوات الثلاثالأخيرة؟ ولعل التساؤل المنطقي، هل ستكون هذه التحالفات بديلًا للتحالف مع واشنطن أولًا ثم مع دول أوربا الغربية، وما موقف الغرب من هذه العلاقة.
لعل المتابع للمشهد السياسي يلحظ أن العلاقات السعودية الأمريكية شهدت أسوأ مراحلها في فترة أوباما الثانية، وكذلك الحال مع بعض الدول الغربية كألمانيا وكندا وتأرجح الموقف الفرنسي، وغموض موقف بريطانيا الذي هو جزء من سياستها العامة، ثم الموقف الغربي بشكل عام من أمن المنطقة والتردد والتباطؤ في علاج ملفاتها، وسعي الغرب لإيجاد صيغة جديدةتتفق مع أهدافه الخاصة، استحوذت على كل اهتمامه في الملف النووي الإيراني، فبدت ملاح تحول جديد في علاقات الرياض الخارجية، تحسب لصانع القرار، الذي استشرف المستقبل، فحرف بلمح البصر وبدون أية مطبات سياسية مسار قاطرة العلاقات السعودية شرقًا، متخذة مسارات عدة بين تجديد علاقات سابقة، وإقامة علاقات جديدة.
فالسعودية وباكستان حليفان منذ سبعة عقود كانت علاقاتهما متميزة، رغم تغير الأحزاب والقيادات، وأما الهند فقد شكلت زيارة سمو ولي العهد تحولًا مشهودًا في العلاقة بين البلدين، تم فيها تجاوز عقدة العلاقات السعودية الباكستانية، التي كانت محددًا في تنامي العلاقة بين البلدين في الماضي، وأما الصين فهي من الخمس الكبار، ولها صوت مؤثر في مجلس الأمن، ولديها مبادرة الحزام والطريق التي تلتقي مع رؤية السعودية 2030 في بعض المجالات، كما شكلت زيارة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد منعطفًا مهمًا في تاريخ ومستوى العلاقة بين البلدين.
وأما روسيا فحدث ولا حرج، فالحفاوة والاهتمام التي قوبل بهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعكسان التوجه الجديد في السياسية الخارجية السعودية، حيث شهدت العلاقات بين موسكو والرياض تناميًا ملحوظًا في علاقاتها السياسية والاقتصادية بعد الزيارة التاريخية الأولى لخادم الحرمين الشريفين إلى جمهورية روسيا الاتحادية، فالاستراتيجية السعودية كانت تستهدف تنويع خياراتها الدولية من أجل تحقيق التوازن الإقليمي، وضمن هذا السياق يأتي استنهاض الدور الروسي تجاه أزمات الأمن الإقليمي مطلبًا مهمًا بالنظر إلى تأثير روسيا على بعض أطراف النزاع في دول الجوار، فضلاً عن الرؤية الروسية لأمن منطقة الخليج.
فالحضور الروسي لا يعني أنه بديل للشراكات القائمة لدول المجلس، وإنما تنويع تلك الشراكات هو أمر تفرضه متطلبات المرحلة الراهنة التي تملي ليس على السعودية وإنما على كافة الدول إعادة تعريف مصالحها الاستراتيجية، كما ينبغي الاعتراف أن لا أزمة ستحل في المنطقة من دون المرور ببوابة الكرملين.
إذًا لا غنى لكل من الرياض وموسكو عن علاقة متوازنة بينهما، يكون فيها التنوع من السياسة إلى الاقتصاد والتجارة، وفتح المجال أمام الاستثمارات المشتركة بين الدولتين، وهناك بعدمهم في طبيعة العلاقات الجديدة بين روسيا والسعودية يتمثل في اعتراف مشترك بأمرين:
الأول، إقرار الرياض بأن روسيا قوة كبرى تعود إلى الساحتين الدولية والإقليمية، وتطل مباشرة على منطقة الشرق الأوسط، وتفرض أجندتها، لا سيما من خلال الميدان السوري.
الثاني، إقرار موسكو بأن السعودية باتت “الطرف الأساسي” الذي يقود الوجهة العربية وإلإسلامية في ملفات ساخنة متعددة، لا سيما أمن الطاقة، واستقرار المنطقة.