المقالات

زمن التنمّل التقني!

تبدو الكتابة في بعض الأحيان شكلا من أشكال نفي الذات وإلقائها خارج الأسوار، فنحن إذ نكتب اليوم، نلقي بنا خارج أنفسنا بالقدر نفسه الذي نحقق به وجودنا، فكأن تحقيق الذات مشروط بالنفي لا الإثبات، وبالإقصاء لا الانتماء، فلا عودة إلى التماسك النفسي والسلام الداخلي إلا بالخروج من زمن الكتابة والدخول في زمن المحو.

في المحو وجود حقيقي لا يقاس بالوجود الكتابي الذي هو ضرب من الوهم والمجاز.
منذ أن تحول الصوت إلى رمز كتابي فقد حيويته، وفقد حياته، وفقد مداره في الفضاء الكوني ودخل في عالم السكون، عالم الموت.
إن القراءة في بداية أمرها تلاوة، تعالق مع عالم الأصوات، ولذلك كانت (اقرأ) فعلا يجمع بين النشاط الذهني والحركي غير السكوني.

فلما تحول الصوت إلى رمز كتابي خمد هذا العالم ودخل الإنسان في عالم الكتابة الساكن، فأعلن موته من حيث يظن أنه يحيا حياة تتسم بالخلود.
ومن ذلك الحين .. ونحن نكتب ونتّسخ بهذه البثور والقشور التي تبحث عن نواة الخلود في أعماقنا، مع أنه لا حياة أفضل ولا أكمل من أن يخرج الإنسان من فضاء الرموز الساكنة إلى فضاء العلامات المتحركة، أو بالأصح إلى عمارة هذه الأرض بالقراءة الكونية التي تجمع بين السير والتأمّل.

وفي نظري أننا فيما لو محونا كل الكتابات التي اندلق بها الحبر في فضاء التواصل الكتابي؛ فسيعود العالم نظيفا صقيلا، سيصبح أكثر رشاقة وسيتخلص من كثير من هذه البثور التي أصابته بالحكة والتنمّل بدلا عن الحركة والتأمّل.

يخيل إلي، على سبيل الحقيقة لا المجاز، أني لو قمت شخصيا بمحو كل ما كتبته على هذا النحو سأنتعش أكثر، وسأكون أكثر حرية مما أنا عليه الآن فقد صنعت لنفسي بالكتابة إطارا خانقا ومقعدا وثيرا نبتت حوله طحالب الكسل والخمول، ومثلي كل من تورط بهذا العالم الأزرق ودخل في متاهة التنمّل “التقني”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى