المقالات

بين الذكرى والمولد

بداية سأتسامح معك في المسميات؛ لتتسامح معي في الحكم.
عيد المولد وذكرى المولد وما الفرق؟ أم أن البعض يبذل جهده لتثبيت (عيد) طلبًا في تجريم المدلول والتشنيع عليه؟
نحن بين يدي تواريخ أبدلت العالم نورًا بعد ظلام وعلمًا بعد جهل، وكونت قاعدة لكل القيم التي نتعايش بها الآن أو نتمنى أن نتعايش بها يومًا ويقوم عليها أمر الدنيا والدين، ومنها ذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام وذكرى هجرته، وهاهي ذكراه عليه الصلاة والسلام قد باتت توقيتًا معتمدًا وتاريخًا يقوم عليه كل أمر، فكيف أصبحت تلك الذكرى مناط حركتنا وسكوننا وعليها مدار الأمر كله، وما بال ذكرى مولده عليه السلام قد نحت منحى آخر وطريق مختلف؟

ذكرى هجرة النبي عليه السلام وبعثها والاهتمام بها، وجعلها انطلاقة التاريخ الهجري كما نرى كان بسبب الاحتياج، وهو الدافع الرئيس ولا شك، ولعل ما يقاس على ذكرى الهجرة يطبق على ذكرى المولد، بل الحاجة إلى ذكرى المولد باتت أشد، وربطنا بتلك الروح أصبح ضرورة.

من خلال التقصي الأبيض كما يقال نرى الخلاف يدور كثيرًا حول المصطلحات، وما يلحقه من تبعات فهم ما بين عيد المولد وذكرى المولد واحتفال وإحياء وماهية ذلك الاحتفال حتى عادوا به إلى ما يصاحبه فربط الرافض الاحتفال بالغناء والرقص، وحرر المؤيد تلك الذكرى من أي منكر، وأعاد المنكر إلى أصله في التحريم منقطعًا عن أي تاريخ أو ذكرى وهم بين هذا وذاك، ولكل دليله وحجته بل ولا تتعجب كثيرًا إن وجدت من يرفض تلك الذكرى بسبب ارتباط البداية بالدولة الفاطمية مع أنها كما تعلمون لم تكن إلا نشر لسيرته في بعض المجالس، وتوزيع ما يفيد الفرحة ودعوة لانتظارها في الأعوام القادمة، ولم تكن بذات الذكرى وذات الطقوس والمعالم لبقية أعياد الفاطميين، وإن كانت مرتبطة بهم فما العيب مالم تكن منكرًا بينًا ومخالفة واضحة.

هب أن تلك الذكرى توقيت لي ولك لإحياء بعض سنته وشيئًا من هدايته، وهب أنها فرصة متكررة لربط النشء بتلك الشخصية الاستثنائية، وتقريب لتلك السيرة، وشرح متقن لتفاصيل تلك الأيام، ولا مانع أن يكون (يومًا مع النبي) صلى الله عليه وسلم، لتأصيل الحب وبيان سببية تلك العاطفة تجاه ذلك النبي الإنسان عليه الصلاة السلام، ونثر دوافع ذلك الشعور بين الناس لنحبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يستحق الحب بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، فلو لم يكن بنبوته أفضل الأنبياء لكان بسيرته وأخلاقه أعظم العظماء.

وإن قلت هذا حالنا طوال العام فلا باس فقاعدة (الزيادة ولا النقص) محببة في هذا وحقيقة به عليه السلام، وإن فسرنا المحبة بالمتابعة والسير على نهجه فهذه مرحلة عالية من الحب ومقام محمود ليتنا نصله، وهل يخفاكم أن المتابعة ليست إلا منزلة رفيعة من ذلك الحب الذي نقول؟! ولكن مالا يدرك جله لا يترك كله، ولعلنا نصل بهذه إلى تلك.

نعم ليست عيدًا، ولن تكون احتفالًا يصاحبه معصية، بل يومًا تتناقل فيه المدائح، وتتكاثر فيه الأشعار، وتنعقد مجالس الاحتفاء بسيرته، والتذكير بإنسانيته قبل نبوته، ولن نزيد.
ولست هنا بصدد ذكر مناقبه وشرح شمائله فليس بعد (إنك لعلى خلق عظيم) قول ولكن لماذا يستحق منا نبينا عليه الصلاة والسلام كل هذا الحب؟

للأسف أحسب أن الإجابة فوق إدراك المتلقي والكاتب، ولكن باتفاق أن ما يحتضننا من عاطفة، ويجتاحنا من حب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا ردة فعل لما كان يُكنّ وبعضًا مما يشعر، فقد روى مسلم عنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: *”اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي”* وَبَكَى. فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ. فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ الله: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ”، وهذه النصوص وأشباهها تبين أن كل حب نبذل ليس إلا بعضًا مما ينبغي ونزرًا يسرًا مما يجب.

ختامًا..
الذكرى تُعنى بالروح كثيرًا، وهذا ما نحتاجه من ربط الأرواح بملهمها، واستذكار ذلك الفضل وتلك الأيدي بتلك الذكرى، فعليه الصلاة والسلام ولا حرمنا وإياكم حوضه.
*غرد بـ*
الذكرى سلّم الحب، والحب طريق موجب للاتباع.

—————————
@ryalhariri
Ryalhariri@gmail.com

Related Articles

2 Comments

  1. مقال رائع وجميل ونهج صالح في السرد .. غير أني لي ملاحظة صغيرة .. هناك خطأ بأن أول من أقام ذكرى المولد النبوي هم الفاطميون .. ولكن الصحيح أن أول من أقام المولد النبوي واقام له مجلسا كان الملك المظفر ملك إربيل في العراق وهذا مايذكر في كتب السيرة وكتب السلف .. وجزاك الله خير

  2. الأستاذ الكريم رياض
    لقد عبّرت عن مكنون كثير من القراء وأظن أنه جاء الوقت لكي يكفّ أصحاب الرأي الآخر عن لعب دور المنقذ من الضلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button