حسن عطا الله العمري

حديث العمر ١-٥

اليوم يطيب لي أن أغرس قلمي داخل أحاسيسي وأملأه من حبر عواطفي، ومشاعري الدفينة لكي أسترجع معكم ملامح وصور بعيدة ترسخت في عقلي وداخل أعماقي، وأكتب لكم سطورًا تصورّ حديث عُمّرِي وحروف ذكرياتي وأيامي، وهي حقائق عشتها وعاشها جيلي وليست سردًا لسيناريو فيلم خيالي يكون مبنيًا على تصوراتي وخيالاتي، تارة أعرج فيها على مرحلة مهمة من طفولتي وشقاوة صباي، وتارة أخرى أجوب معكم سويًا ملامح ولقطات متنوعة مستمدة من أحلام طفولتي وشبابي، وليال الربيع، وكآبة الخريف، ودفء الشتاء، وحرارة الصيف التي كانت جزءًا مهمًا في رذاذ عمري وهتان أعوامي؛ لتعرفوا قيمة الحاضر الأجمل الذي نعيشه اليوم والذي أراه يتراقص فرحًا وطربًا، وجذلًا أمامي.

حديث عُمّرِي سيداتي سادتي وقرائي الكرام اليوم عن طفولة جميلة آسرة عشتها في حواري مكة الحبيبة، وحواريها الجبلية، وكيف كانت أنوار الأزقة والحواري تُضاء بالأتاريك التي يحملها شخص على كتفيه، ويقوم بتغيرها كل مساء.

وأتذكر حين يأتي المساء إضاءة منزلنا الفانوسية التي كنا نتجمّع حولها أسرة كبيرة سعيدة متحابة ومتواضعة نستمع إلى جدي -رحمة الله عليه- كل ليلة بين المغرب والعشاء ليقص علينا بأسلوبه الساحر حكاياته وقصصه الشيقة، وحكمه ودروسه المستفادة؛ وكأنها تشبه أفلام هوليود في جمالها ودرجة إثارتها.
تلفزيوننا وتسليتنا الوحيدة داخل المنزل كانت حكاوي جدي وجدتي، لا كهرباء ولا تلفزيون ولا دش إلا عصفور عش جميل على شجرة بيتنا الجبلي يغني بصوته الشجي حبيبي ياحبيبي، كتبت اسمك على صوتي ونعيش في سلام مع هذا العالم الذي لانعرِف من حدوده إلا مساحتنا الصغيرة والضيقة التي لا تتجاوز محيط حارتنا (ريع الكحل) في مكة الحبيبة.

الله كم كان ذلك العالم بعيدًا عن كل أخبار الحروب والصراعات والنزاعات ومسالم وهادي وجميل ومريح لا قلق ولا توتر، ولا منغصات، ولا عواجل أخبار ليلية، وكان أكثر مايخيفنا ويطير النوم من عيوننا حكايات السعلي، وأبو سلاسل، وأبو جلاجل، والذئب الذي هجم على الغنم التي ابتعدت عن الراعي فهجم عليها وأفترس إحداها.

ننام على أصوات الكلاب العاوية، ونصحى على أصوات الديوك الشجية الرائعة؛ وكأنها تحتفل ببزوغ فجر جديد لدنيا سعيدة باسمة.
فطورنا كان زبدية لبن حامض يخرج طازجًا من (شكّوة) جدتي الجلدية الملمس، والسوداء اللون والملبس، والتي كانت تتدلى من على سدرة نخلة في حوش بيتنا الشعبي العتيق، وتقوم جدتي بهزها يمينًا وشمالًا أمام أعيننا؛ لكي يتخمر اللبن ونحن معها نهتز فرحًا وشوقًا انتظارًا لكوب اللبن الرائب.

ونفطر على قرصان خفيفة تضعها جدتي على الصاج، ونترقبها بعيون جائعة، ولكنها راضية قانعة يشبعها أقل القليل، وتشعر بلذة الأكل التي لانشعر بها اليوم في أرقى البوفيهات الفندقية وبأسعار عالية.

وإذا عطشنا ارتوينا من مياه (الزير) التي كانت هي ثلاجتنا الوحيدة في ذلك الزمن البعيد داخل منزلنا البسيط الذي عشت فيه، وترعرعت بين جنباته أجمل أيام العمر.

اتذكّر يامكة طفولتي في ريع الكحل أحد حواريك الجميلة التي كانت تجمع أطيب الناس وأجمل الإحساس، وأنا ألعب مع أقراني لعبة المدوان، وكيف كنت أختال طربًا مع كل ضربة مدوان وانا أشاهده يلف يلف يلف، ويدور سريعًا فتدور معه عيوني، ويزداد مع لفه غروري وفرحي وحماسي.

أتَذَكّرُ ياجبل أبو لهب أحلامي الصغيرة، وأنا وأصحابي نتسلق إلى قمتك العالية بكل شوق الدنيا؛ لنكتشف ماذا يوجد فوق مرتفعاتك من أسرار وكنوز ولا نجد سوى صخور في صخور وفتحات للثعابين التي تختبئ داخلها لتنقض على فريستها في الوقت المناسب.
وننزل من الجبل، ونقفز من صخرة إلى أخرى في نشاط كبير؛ حتى نصل إلى الحارة، ويأتينا بياع الخيالات والأحلام الوردية يحمل علبة
(الشختك بختك)، ونختار رقم، ونضغط عليه فرحانين مسرورين علّنا نحصل على هدية قيمة أو مكافأة مجزية، وفي كل مرة يكون حظي كيس من الحلاوة لاتغني ولا تسمن من جوع، وفي مرات أخرى أطير من الفرحة إذا وجدت مع الحلاوة خاتمًا صغيرًا أضعه في أصبعي؛ وكأنه خاتم سليمان فريد من ذهب والماس يسحر العينين، أو يبتسم لي الحظ وأجد الهدية عبارة عن صورة للمطربة اللبنانية المشهورة في ذلك الوقت (هيام يونس )؟التي كانت تملأ الدنيا طربًا ونغمًا بأغانيها الناعمة.

وأرجع الى بيتنا الصغير منهك القوى من لعبة (الشرّعد) أو لعبة (الطيري) كما كانت تسمى في ذلك الوقت فتطلب مني أمي -حفظها الله- التوجه إلى ثلاجة (الكعكي ) في منطقة (البيبان) لكي نشتري للبيت قالبًا من الثلج، وأذهب مسرعًا على رجلي واضعًا منشفة على رأسي، وأخذ قالب الثلج الذي لا يتعدى ثمنه دراهم معدودة وأضعه فوق رأسي الصغير وتحته المنشفة سعيدًا قانعًا مطيعًا لا أتأفف ولا أعتذر عن المهمة أو أتأسف، ولا أشتكي ولا أعترض أو أتفلسف، وحين أشعر ببرودة الثلج على أطراف أصابعي أمسح بطرف المنشفة ماتساقط من ماء بارد على عيني وعلى خدي حتى أصل إلى البيت، وتضع أمي الثلج في الزير ليبرده ويخفف علينا من لهيب الصيف قليلاً.

كانت حياة بسيطة هانئة قانعة لا شكوى فيها ولا هم ولا غم يُكدِرُها، واذا أذان المغرب وصلينا انتهى كل شيء، وكل واحد يتذكر مقولة (بيتِك بيتِك) لامجال أبدًا لأي محاولات أو استثناءات تسمح أن أكون خارج البيت بعد المغرب أو يحضر أبي إلى البيت ولا يجدني.

وبعد صلاة العشاء أرمي جسدي الصغير على سرير خشبي يسمى (كراويته) غطاؤنا وشرشفنا كان ناموسية بيضاء تضعها أمي فوقنا أنا وإخوتي الصغار؛ لتحمينا من لسعات الناموس، الذي لا يفرق في لسعاته بين طفل أو عروس.

اليوم نجد أبناءنا يعيشون في حاضر باهٍ مشرق به ننباهي كل الأمم فلنحمد الله عليه؛ ولنحافظ عليه ونطوره للأفضل، ولنتذكّر كيف كنا وكيف أصبحنا بحمد الله وفضله وعزم قيادتنا الرشيدة.

Related Articles

7 Comments

  1. الله عليك يا ابو نواف ابداع في تصوير الزمن الجميل بحروف ذهبية وصف جميل رائع كروعت دائما مبدع وفقك الله وبارك فيك وفي عمرك وعملك وذريتك وزادكم من فضلة حبيب الكل ابو نواف جاري العزيز الغالي
    اخوك المحب ابو ياسر

  2. الله
    مقال أقل ما يقال عنه أنه قلَّب علينا السعادة

    أيام لحقنا طرفها الأخير وعايشنا سعادتها بكل التفاصيل
    شكرًا لهذا الابداع أيها المكي الجميل
    ريع الكحل منبع الغزلان

  3. ذكريات اقل مايقال عنها جميلة جدا ايام كانت مليئة بالسعادة والفرح بالرغم من بساطتها شكرا من القلب كاتبنا لمشاركتنا ذكرياتك الرائعة??

  4. رسالتي وإعجابي للصحيفة أولاً على إختيارها الموفق للكتاب الذين يكتبون فيها ورسالتي الثانية لصاحب المقالة الذي أطربنا وامتعنا وطاف بنا في رحلة العمر بمهارة فائقة وحروف ماطرة وسطور رائعة جعلتنا نعيشها حقاً ونتذكرها فعلاً

  5. ماشاء الله تبارك الله مقالاتك جدا رائعه ووصفك ايام الماضي وودكريات ريع الكحل ناس طيبين وحياه بسيطه وجميله تغمر السعاده في قلوبنا رحم الله من كانو معنا ورحلو هم اساس جمال الحياه وروعتها اتمنى لك التوفيق والسعاده في وصفك الرائع ياابو نواف انا من سكان ريع الكحل رجعتنا للماضي وصفك في قمت الروعه

  6. ماشاء الله تبارك الله لله درك ابو نواف لقد صورت احاسيسك واقوالك الرائعه في وصف الذكريات الحلوه الجميله في وصف الماضي ل ريع الكحل ذكرياتنا ممتعه في بساطة الماضي والقناعه في كل شي انا من سكان ريع الكحل وصفك رائع في كل ماكتبت رحم الله اناس كانو معنا في منتهى السعاده والهناء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button