حسن عطا الله العمري

حديث العمر (٢-٥)

وتأخذني الذكريات وحديث العمر معكم اليوم قرائي الكرام إلى صفحة أخرى من صفحات العمر التي عشتها وعاشها جيلي المخضرم في مكة الحبيبة التي كانت حواريها وجبالها وبيوتها شاهدة على كل معاني الحب والبراءة والطفولة التي تنبض بالحياة بعيدة عن كل مايعكّر صفوها من منغصات اليوم التي تتوالى علينا من كل حدب وصوب تارة في صورة أخبار مفجعة، وتارة أخرى على هيئة موت فجائي لأحبة وأعزاء موجعة، ومرة على شكل جوائح أمراض مهلكة، أو تهديدات بحروب وكوارث مقلقة.
أذكر يامكة أول يوم لي في المدرسة في المرحلة الابتدائية، وأنا أرى في طريقي مزارعًا يزرع حديقة جميلة بجانب مدرستي أشجارها صغيرة تبدو أنني أطول منها، وحين مررت عليها بعد نصف قرن من الزمان رأيتها قد غدت حديقة وارفة الظلال وأشجارها تعانق السماء فقد كبرت الحديقة وكبرنا معها، لكنها حين كبرت ازدادت جمالًا بعكس الإنسان حينما يكبر يزداد ضعفًا وآلامًا.
هناك تعلمت مفردات غريبة على مسامعي، وأنا طفل صغير مثل (الفلكة)، وما أدراك ما الفلكة ولسعة الباكورة التي تجعلك تصرخ، وتولول في كل اتجاه.
ومع هذا كانت هناك لحظات فرح حقيقية كُنّا نعيشها؛ حيث كانت المدرسة تقيم حفل الغداء السنوي فيذبح فيه بقرة، ونجتمع عليها سويًا في نهاية العام حقيقة لا أعرف لماذا كانت بقرة ربما؛ لتكفي العدد لكنها كانت بقرة جميلة كنا نحزن كثيرًا على فراقها بعد أن تذبح أمامنا.
ولازلت أذكر مقدار سعادتي وغروري الطفولي حين رشحني رائد الفصل لمهمة عريف الفصل؛ وكأنه رشحني لمنصب رئيس الوزراء، ولكنها النفس الإنسانية التي تتوق إلى أي منصب تفرض فيه سلطتها.
وفي غمرة الفرح والأناشيد الجميلة التي كنا نرددها، بابا يجي متّى، يجي الساعة ستة راكب ولا ماشي راكب بسكليتة، حمراء ولا بيضاء، بيضة زي القشطة وسعوا لو السكة،
انتقل عمل الوالد إلى مدينة جدة، وحان الرحيل يامكة وكانت تجربة فيها الكثير من الألم والمعاناة حيث لا أصحاب ولا أحباب، ويجب أن أبدأ من الصفر في صنع صداقات جديدة ومدرسة وحارة جديدة، كل شيء تغير في حياتي حتى الهواء والطقس الذي كنت أتنفسه والجيران والمجتمع الذي كنت أختلط معه.
وقبل عدة أسابيع من انتقالنا من مكة إلى جدة، وفي غمرة الألم والحزن الذي اكتنفني، وأنا أودع حارتي الصغيرة ومجتمعي الطفولي الذي لا يعرف إلا عالم البراءة السعيدة الحالمة حدث لي حادث كاد يفقدني بصري؛ حيث كنت ألعب مع أصدقائي لعبة الشرعد، والتي تتطلب أن تجري بأقصى جهدك حتى تهرب من القبض عليك ممن ينطلق وراءك كالسهم واذا بسيارة قادمة من أحد المرتفعات الجبلية في حارتنا الشعبية تصدمني وتقذف بجسمي الصغير بقوة بعيدًا عدة أمتار.
فتح الباب السائق ونظر إلي مرتبكًا وقال: (سلامات سلامات)، وكان السائق ابن أحد الجيران وتركني للأسف أنزِف وغادر المكان بسرعة خائفًا معذورًا.
كانت الصدمة متوسطة فوق عيني اليمنى، وسببت لي جرحًا غائرًا فوق العين.
ونقلني أهل الحارة بسرعة للبيت، وحضر جدي مسرعًا؛ لأن أبي كان مسافرًا واجتمع الأهل حولي ودار جدل كبير هل يتم نقلي للمستشفى أم يكتفى بمعالجتي في المنزل، وكان الخوف إذا ذهبت للمستشفى فهذا قد يضر بابن جارنا ويعرضه للسجن !!!!!
لا أكاد أن أصدق كيف كانت النفوس والشهامة التي تفكر في هذه الجوانب التي تشكل ثوابت لا يمكن أن يحيد عنها جدي أبدًا، وزاد النزيف وجدي مصر على موقفه، ويطلب من أمي أن تضع على الجرح جزءًا من خيوط بيت العنكبوت المتجمعة في سقف بيتنا الشعبي، والتي كان يظن جدي أنها فعالة لإيقاف النزيف، وأنا مستسلم لاحول لي ولا قوة أنظر إليهم والدموع تختلط مع دمي، وتتساقط على وجنتاي الصغيرة، ولا أقوى على البكاء خوفًا من جدي الذي كان دائمًا يردد على مسامعي الرجل لا يبكي.
وأتى الفرج من أحد الجيران الذين كان لهم مكانة واحترام في الحارة؛ حيث اقترح على جدي أن ينقلوني للمستشفى، ونبلغ المستشفى أن الابن سقط من على الدرج وبذلك لا يتعرض ابن الجيران لأي مساءلة وبهذا يتم علاجي دون أي مشكلة، ووافق جدي على هذا الرأي على مضض وذهبنا سريعًا لمستشفى (أجياد) القريبة من حارتنا مشيًا على الأقدام في ظلام الليل، وتم تنظيف جرح العين وخياطته وكتب الله لي الشفاء بعد عدة أسابيع بعد معاناة مؤلمة مع بقعة دم استقرت داخل عيني استمرت فترة من الزمن.
الشاهد في الموضوع أن التلاحم والمحبة بين الجيران كانت عند جدي من المسلمات التي لايمكن التنازل عنها والتفريط بها.
رحمك الله ياجدي بالرغم من كل الحب الذي كنت تحمله في صدرِك لحفيدك الأول، والذي كنت أشعر به، وأنا طفل صغير إلا أنك لم تتنازل أبدًا عن مبادئك وما تربيت عليه من تقدير عميق وكبير للجيرة والجيران حتى لو تسبب ذلك في كثير من الألم والمعاناه لأقرب الناس إليك.
انتقلنا بعد ذلك إلى مدينة جدة، وهناك عرفت لأول مرة التلفزيون والثلاجة والبحر والسينما، وتغيرت أشياء كثيرة في حياتي علي لم أكن أعرفها من قبل أولها قبة عشرة وما أدراك ما قبة عشرة وإطلالتها المميزة على البحر وفنادق العطاس التي كانت واحة من الحرية والمسابح المختلطة وأحواش السينما التي كانت تعرض أحدث الأفلام سنتناولها في المقالة القادمة.

Related Articles

13 Comments

  1. سُعدت بقراءة المقال
    سلمت يداك سيدي،،
    ذكريات ممتعه حقا،،
    ما أجمل سرد ذكريات الماضي الجمييييل….

  2. مقالات رائعة وقلم صادق يكتب بواقعية .

    قرأت العنوان/وشدني بل واجبرني أن افتح صفحته .لاأجده
    يحتاج الى مقال /يحاكيه ويرد عليه يوافقه ويخالفه.

    عريف الفصل
    ثم عمل الوالد الانتقال لمكة كانت بمثابة سحب الصالحيات الكاملة.

    احتاج الى أن أقرأ كثيرا لك فمن صفحات العمر دروس وعبر

    شكرا لك

    اخوك/فواز اللهيبي

  3. حديث الذكريات وهمسات العمر برائحة وعبق الماضي الجميل وايام الحاضر المشرق.. سلمت اناملك استاذي ابا نواف?

  4. اسلوب الكاتب يجعلك لا تستطيع التوقف عن القراءة وكأنك تشاهد فيلماً مشوقاً رائع رائع رائع

  5. قرأت المقال بمتعة قراءة الروايات الكلاسيكية وانا اتلمس الحنين بين سطوره والكلمات التي كانت مثل آلة الزمن تنقل أرواحنا لتلك اللحظات وكأننا نعيشها معك وتركتنا متلهفين لا نطيق الإنتظار للحلقة القادمة .

  6. ما اجمل الذكريات عندما تشعر انها تلامس حواسنا وتأخذنا من مكان الي آخر ومن زمن الي زمن ذهب ولن يعود الا من خلال الكلمات.

  7. ما اجمل الإحساس بالذكريات عندما يشعر الفرد منا انها تلامس حواسنا وتسافر بنا من مكان الي آخر ومن زمن الي زمن ذهب ولن يعود الا من خلال الكلمات.

  8. ذكريااااات جميلة جدا عشان الشعور الجميل معاك وذكريات اقل مايقال عنها رائعة ?

  9. مقالة معبره بتفاصيل تلامس القلب.. سلمت يداك .. ابعدتنا عن الواقع المتعب للماضي الجميل

  10. من أجمل ما قراءت سطور جميلة وقلم أجمل ومشاعر وذكريات رائعة صيغت بإحترافية كاتب ملهم

  11. ماشاء الله ذكريااات جميلة جدا عشنى مع الكاتب الماضي الجميل بانتظار المزيد من ذكريات العمر ????

  12. مقالة رائعة تاخذنا الى ماضي جميل وذكريات لها في قلوبنا حنين ، شكراً لكم من زمان لم اقراء مقالة لامست شغاف القلب مثلها فتحية لمن كتبها وتحية لمن سمح بنشرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button