عن مسيرة الاغتراب، فإن ليس كل البوح ” كلاماً” قد يكون الصمت أشد بلاغة !
يحدث أن نرى المحب يبكى عند لقاء محبوبه وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ووجده به، ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق ، لم يجده فى حال غيبته عنه، وكأن المحب لا ينتهى اغترابه مطلقا.
“السهروردي” الصوفي الشهير غالب نوعاً من الاغتراب الذي لا يعادله اغتراب.
اغتراب أبدي، لا زمان يحدده ولا مكان.
يعالج اغترابه بالانتماء إلى غير المحسوس، الهرب من هذا الوجود بوصفه غريبا وطارئاً وغير أصيل، حيث أن كل الأوطان لديه هي الرجوع إلى الله!
كان السهروردي ضحية عصره بلاشك ، فالقرن السادس الهجري القرن العنيف الذي لم يكن فيه أي أثر للتسامح، وقد ضاق بالمفكرين والفلاسفة على النقيض من القرون التي خلت، عالم إسلامي موزّع بين الخلافة العباسية السنية، والخلافة الفاطمية الشيعية.
يشتد النزاع فينادي بنو العباس السلاجقة الأتراك ليواجهوا البويهيين أتباع المذهب الآخر.
يصل السهروردي بعد ذلك لحلب التي كان يحكمها الزنكيين أتباع بني سلجوق. في مناخ متوتر أطبق عليه الجنون الطائفي، لا مكان بالطبع لشابٍ صوفي يبشر بـ (حكمة الإشراق) وشقيّ التذوق والحكمة البحثية.
يستدرج فقهاء صلاح الدين الأيوبي الشاب المندفع بالأسئلة التي لا شك في أنها ستقتله!
ويحكمون عليه بالموت، وعليه أن يختار طريقة حتفه، أن يموت بالتجويع أو بالحرق أو بحد السيف، فيختار الجوع حتى الموت، وتلك ميتة يحبها الزهاد.
يموت وعمره 36 عاماً
ويبقي عشرات الكتب ومئات الرسائل ومشاعر اغتراب تصلنا إلى هذا اليوم و إلى أبعد.
مات السهروردي وأخذ (حكمة الإشراق) معه
وبقي منها هذه القصيدة التي يغنيها أهل الشام والحجاز في كل (إشراق) طربي!
“عَلى العَقيق اِجتَمَعنا نَحنُ وَسودُ العيونِ
أَظنّ مَجنونَ لَيلى ما جنّ بَعضَ جُنوني
إِن مُتّ وَجداً عَلَيهم بِأَدمُعي غَسَلوني
نوحوا عَلَيَّ وَقُولوا هَذا قَتيل العُيونِ
أَيا عُيوني عيوني وَيا جُفوني جَفوني
فَيا فُؤادي تَصبّر عَلى الَّذي فارَقوني”