كثيرة هي الأعمال الدرامية والفنية والمسرحية والغنائية التي صاحبها جدل بلغ حد التجريم بحجة الإساءة أو لاعتبارات يرى فيها المنددون أنها تمنحهم هذا الحق.
هذا الجدل المحموم الذي يثار تعودناه على الدوام فالعاصوف وطاش وسيلفي وغيرها من الأعمال والمسرحيات وحتى الأغاني واللوحات الفنية والمقاطع الشعرية شهدت تجريمًا، بعضها أوقف والبعض الآخر طال الحذف مقاطع أو مشاهد منها أو أوقفت بالكلية.
ويظل من حيث الأصل عدم القبول لعمل ماحق مشاع يكفله الفن والإبداع للمتلقي والمتابع والمهتم.
لكن مالا يُقبل هو إصدار الأحكام على الفنون وفق مؤشرات غير فنية ولاعلاقة لها بشرط الفن حيث شرطه الوحيد -أي الفن – (يعجبني ولا يعجبني)
تاريخ الفن الطويل يمدّنا بقائمة طويلة من الأعمال صادرتها الأحكام في حقبة، قبل أن تؤمن بها حقبة آخرى إيمانًا راسخًا.
الفن (مملكة يُعلّق فيها الحكم الأخلاقي) بتعبير (كونديرا ) ولايعني تعليق الحكم الأخلاقي لا أخلاقية الفن، بل تعني أخلاقيته التي تعارض الممارسة الإنسانية الراسخة التي تحكم فورًا وباستمرار على كل الفنون بحكم مسبق عار عن الفهم.
وحكمة الفن تدعو (إلى عقلنة الاستعدادالجاهز والمسبق والمحموم للحكم على الأشياء، وهذا لايعني أن الفن ينكر بالمطلق شرعية الحكم الأخلاقي بقدر ما هو يؤجله إلى ماوراء الفن ).
وتظل مهمة خلق حقل إبداعي يُعلّق فيه الحكم الأخلاقي مأثرة إدراك رفيع، وسبيل تقدم نجحت به الفنون في الغرب، وخلقت به التأثير، وكونت منه سياقات ملهمة لأنها أتاحت أمام المبدعين مساحة تمكنهم من عرض تصوراتهم عن الحياة بمعالجات مدهشة دون قيود.
وهذه الحقبة التي نعيشها في ظل الرؤية الوطنية تُعلي من شأن الفنون وتبشّر بالكثير مما ينتظره هذا الحقل الإبداعي، فالإيمان بالفن وإفساح المجال له هو الطريق نحو الإبداع العالي يعمل على تجذير الفن في وجدان الشعوب ويصنع المبدع المؤثر.
يحضرني هنا البلجيكي يان فابرَ الذي وجد مساحات صنعت منه فنانًا متعدد التخصصات فهو مخرج مسرحي، ومخرج أوبرا، وفنان عرض، وكوريوغراف، وسينوغراف، وفنان إنستاليشن، ورسام، ونحات، ومنتج سينمائي، وهو معروف داخل بلجيكا وخارجها كواحد من أكثر الفنانين ابتكارًا وتنوعًا في جيله، ومعروفٌ أيضا بسعيه لتوسيع آفاق كل نوع فني يطبقه وفقًا لرؤيته الفنية، رغم أنه في أحد العروض التي قدمها تحت عنوان «النقود» ذهب نحو جمع النقود الورقية من الجمهور وأشعل فيها النار، ثم جمع رماد النقود وانطلق يرسم بالرماد، وفي عرضه «إنه مسرح كما هو متوقع وكما يُنتظرُ منه» وضع قنبلة كاذبة في المسرح وأشعل الرعب
ولولا المساحات التي وجدها لما تحول واحدًا من أعظم المسرحيين ولما ترسّخ حضوره كما هو عليه اليوم.
ومن أعظم ماصنعته الحريات من مشهديات مدهشة تلك المشهدية المسرحية الهائلة التي تناولت خروج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة بعد أكل التفاحة، وكيف تُرجمت تلك اللحظة الوجودية الكبرى على نحو مثير وخلاق في أقصى مديات التعبيرية عن لحظة فارقة في تاريخ الوجود الإنساني.