تزوجت في بداية العشرين من عُمّرِي، وهي سن مبكرة للزواج خصوصًا في المدن، وانتقلت من مرحلة الحرية والاهتمام الشخصي إلى مرحلة المسؤولية والاهتمام الأسري، كانت مرحلة صعبة وجديدة في حياتي، في البداية كان هناك صعوبات واختلافات، بل وحتى تحديات واجهتني حتى نتأقلم سويًا فأنا من بيئة بدوية موغلة في البداوة، وزوجتي من بيئة حضرية موغلة في التمدن، لكن الله رزقني (أم زوجة) رائعة ومتفهمة -رحمها الله- حيث كانت تظهر كالبدر كل ما تكهرب الجو العائلي، وتشعل أنوارها كحمامة سلام بحسن تعاملها وتوجيهها ونصائحها لابنتها ولي أنا شخصيًا، وكانت تقف في صفي في كثير من المواقف المشتعلة حتى لو كنت مخطئًا، فهي صاحبة بُعد نظر وتقدير للموقف كنت أحترمه كثيرًا، كما أن الله رزقني بأهل لا يتدخلون إلا بالخير في إصلاح الأمور، وهكذا بدأت الأمور شيئًا فشيئًا تستقر والتفاهم والعلاقة يسودها المحبة والاحترام بعد سنة أولى كانت كبيسة كما يُقال.
ثم شاء الله أن ينعم الله علي بمولود يجعل لحياتي معنى وهدفًا أعيش من أجله؛ حيث رزقني الله بأول طفل في حياتي وأصبحت أبًا ويالها من مسؤولية وتحول دراماتيكي في حياتي جعلتني أعيد حساباتي من جديد.
لا زلت أتذكر اللحظات الأولى، وأنا أستمِع لصوته يبكي ويصرخ والممرضة تلفه بما يشبه المنشفة البيضاء، والكل يردد مبروك جاك ولد.
أخذته بين يداي وأنا خائف أن يسقط مني هذا المخلوق العجيب الحبيب والغريب الذي بدأ لي كالريشة من خفة وزنه وحجمه الصغير وإحمرار خدوده وشفتاه وبراءة النظر التي تشع من عينيه.
وبكل شوق الدنيا حضنته وضممّتُه إلى صدري، وقبّلّتُه وكانت رائحة خدوده وجسمه زكية كشذا الورود والعنبر والعطور الباريسية الأصلية المنبع ينتشر عبقها داخل أركان الغرفة، ويملأ المكان ياسمينًا وأزهارًا.
سبحان الله لازلتُ غير قادر على معرفة مصدر تلك الرائحة الجميلة والمنعشة والطبيعية التي يولد الأطفال عادة، وهي معهم.
كان يتردد على مسامعي هذه رائحة من روائح الجنة فأحضنه وأُقبّلهُ من جديد، وأعيد تقبيله.
ثم خضت تجربة أخرى جديدة تمثلت في اختيار الاسم المناسب لأول طفل، ودار نقاش أُسْرِي وعائلي ممتع ماذا سنسمي هذا الطفل وهذا المولود القادم إلى حياتنا بكل قوة وتأثير، واختلفت الآراء والأهواء، وتعددت وجهات النظر، ومورست الضغوط والطلبات والرجاءات والتوسلات من عدة جهات.
زوجتي اقترحت اسم، وأمي اقترحت اسمًا آخر وإخوتي عدة أسماء مختلفة، أما أبي فلقد اكتفى بأن يكون موقفه محايدًا، وأنا كنت أستمع لهذا وأنصت لذاك لكني في داخلي وفي قرارة نفسي قد اتخذت قراري، وكنت عازمًا على اسم معين كان في بالي؛ حيث كنت في صغري أتمنى أن يكون هو اسمي.
(نواف) كان هو ذلك الاسم الذي وقع عليه الاختيار، والحقيقة أنه اختياري أنا فقط ولا أعرف لماذا لم أفكر في اختيار اسم الوالد في ذلك الوقت هل كان قلة معرفة أو عدم فهم أم جهل بالبروتوكولات، أم أنانية شخصية وتمرد على العادات والتقاليد الموروثة.
لا أعرف السبب، ولكن كان لدي شعور كبير بالراحة لهذا الاسم والاختيار.
وكان أبي لا يظهر أي اهتمام بمسألة الاسم فهو يراها جوانب شكلية ولا يريد أن يكون اختيار الاسم إلا عن قناعة حقيقية ورغبة صادقة.
بدأت رحلة الأب في حياتي مبكرة، ودخلت عالم الأسرة من أوسع أبوابه، وشعرت بمعنى الأبوة حين رزقت بابني.
كانت الشهور الأولى مليئة بالمفاجآت السارة والمزعجة، حيث ما لبث أن اختفى هدوء الليل في حياتنا وبيتنا الصغير، وأصبح الليل أكثر أصواتًا وضجيجًا.
ها قد أصبح في حياتنا طفل لا حول له ولا قوة بعد الله إلا نحن وسبحان الله العلي العظيم كيف يُسخّر للطفل أهل يرعونه بكل الحب والعشق والصبر والتضحية حتى يكبر ويعتمد على نفسه، لكن كثيرًا من الناس لا يفتكر كيف كان وكيف أصبح ويتناسى للأسف هذه الأدوار العظيمة التي بذلها الوالدان وتراه يتضجر من تحمله لبعض الجهد في كبرهما.
عرفت وتعلمت مصطلح التطعيمات الصحية، وأنواعها ومواعيدها، وجربت كيف ترى طفلك يصرخ ويتوجع دون ان تعرف سبب وجعه وبكاءه.
واحد يفتي ذا مغص أعطيه (موية غريب)، والثاني يردد لأتأكد من أذنه، والثالث يصرخ لا ذا جيعان خلي أمه ترضعه، والرابع يقول لا شكله حران فك الكوفلة اللي لابسها عشان يرتاح، وأنت تدعي ياربي هدِي سِرّه، وماينام حتى ينسيك النوم وأيامه وسنينه أنت وأمه.
ذقت أيضًا معنى الخوف والتوتر، حين ترتفع سخونة الابن فوق الـ (٣٩ درجة)، وأنت تجري في كل اتجاه لتخفف حرارته تارة باقتراح أن تقوم والدته بترويشه بالماء البارد؛ لكي تنخفض حرارته وتارة بالكمادات الباردة والشراب المسكن أو التحاميل التي كانت نتيجتها أكثر فاعلية.
خبرات متنوعة ومتعددة تتعلمها كل يوم وتجارب تطبقها على هذا المسكين المستسلم لكل ماتمارسه بحقه من طقوس وقرارات وأنواع التوصيات الطبية منها والشعبية.
واليوم حين أنظر إلى ابني الكبير نواف الذي يعمل مساعد طيار على طائرة الأحلام ٧٨٧ في الخطوط السعودية، وأرى ابنه حسن (حفيدي) أتذكر تلك التفاصيل الدقيقة التي عشتها لحظة بلحظة يوم ولادته الذي كان إيذانًا بدخولي إلى عالم الأبوة والحنان، ويراودني أحيانًا شعورًا بأنني ربما أخطأت في تسمية ابني الأول على غير اسم أبي، وأحمد الله أنني تداركت ذلك، وأسميت أحد أبنائي الذين قدموا بعد ذلك على اسم الوالد (عطا الله)، لكن شهادة للتاريخ وللأمانة أن زوجتي كانت هي صاحبة الفضل وراء اختيار الاسم وبإصرار عجيب؛ ليكون على اسم والدي، وأصبح عطا الله خريج الهندسة اليوم في جامعة كالفورنيا ستيت بمدينة لوس أنجلوس يحمل اسم جده، ويفتخر به وكم أنا سعيد بذلك.
وأدعو الله أن يستفيد ويتعلم من صفاته وأخلاقه، وتعامله وسيرته العطرة حفظ الله والدينا جميعًا، وأطال لنا في أعمارهم، وجعلنا ننعم بوجودهم بيننا موفوري الصحة والعافية.
مشاعر جميلة تذكرنا بمشاعرنا في نفس الموقف عندما رزقنا الله بالمولود الأول.. الله يحفظهم ويجعلهم قرة عين لنا
احداث جميلة جدا مليئة بالحب والفرح ..حقيقة مشاعر رائعة كونك اصبحت اب في سن صغيرة تملىء القلب بهجة ادام الله عليك السعادة ونشكرك لانك شاركتنا بذكرياتك المليئة بالحب والسعادة
الأجمل هو احتفاظك بالذكريات واسترجاعها بنفس النكهة الطازه fresh. دمت ابنأ مباركًا وزوجًا رائعًا واخاً مسانداً وأباً حنوناً.
سرد رائع لذكريات جميلة ابدع قلمك في وصفها ولامست فيها مشاعرنا.
تتألق الحياة الزوجية ببذور تنتش في ريعان الشباب لتجد النور فتلفها الأيدي بالرعاية والدفء حاملة معها ما حاملة من هموم وخوف وجهد لتكون تلك البذور بخير.. يمر اليوم وبعده الآخر وتلك البذور مازالت تتبرعم وريقاتهاوالقلب ينفطر رفقا رعاية خوفا صلابة شدا بأزرها.. لا يمر اليوم الا والقلب قد انفطر… ولا تتمايل تلك البذور ويشتد ساقها الا والروح ضارعة لله بان يحفظها.. تحتضنها الأعين يوما بعد يوم.. وكل أنملة تنمو بها أو تجيد التصرف وتبتكر النجاح فتتبرعم لتزهر ثم تتفتح ورودا ثم تينع لتجني تلك البذور محصول ذاك الاهتمام لتبني به عشا آخر لبذورها..
دورة الحياة هذه تمر عليها الفصول كافة.. ونطلق الأبصار على تلك الأيام لنتذكر ذاك الجمال مع غصة بسيطة من الألم يمسح غبارها شهادات ارتقت بفلزات الأكباد ليكونوا نتاج صبرنا وكفاحنا.. أصلح الله جميع الأبناء..
وقوافل شكر للصحيفة هذه المشاركة وللكاتب الذي أتقن في وصف شعور الأبوة المخفي دوما تحت ردادء الرجولة والقسوة.. وتلك الكرامات التي يسد بها دين الآباء والأمهات والذي مهما عملنا لن نوفيهم حقوقهم..
اسلوب الكاتب رائع في السرد الغير ممل وكانك تشاهد الاحداث
سلمت اناملك سيدي
مقااال شعرت اثناء قرائته بالمتعة
وكمية حنان وخوف على الضنا ما تنوصف..
بل تمنيت ان اكون مكان الابن نواف….
كم أنت محظوظ يا نواف بأب يخاف عليك اكثر من نفسه…بل يبيع الدنيا لأجلك…
احساس الأبوه إحساس جميل وعظيم،،
واحساس الأبوه هي نعمة وآية فإن وهبك الله هذا الإحساس فأنت محظوظ،،
وابناءك محظوظين بك
ليس كل من أصبح أبا يملك احساس الأبوة…
هناك آباء قلوبهم كالحجر بل الحجر أحن منهم
كفانا الله شر هؤلاء…