تعرّض العالم على الأقل خلال القرن الماضي لثلاث جوائح عالمية على نطاق واسع الانتشار، أولها كان وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918،أصابت 500 مليون من سكان العالم، أي ما يعادل 27% من سكان الأرض آنذاك. وقدرت ضحاياه ما بين 17-50 مليون وفاة، وبعض التقديرات بلغت 100 مليون حالة. لذلك اُعتبر أكثر الأوبئة فتكًا في تاريخ البشرية. تلاها جائحة إنفلونزا شرق آسيا عام 1957، وهي الأقل فتكًا؛ حيث قدرت الوفيات بين 1-2 مليون حالة. ثم أخيرًا وباء إنفلونزا هونج كونج عام 1968 وقدرت ضحاياه بين 1-4 ملايين حالة.وإذا كانت انتشار الأوبئة المميتة تفتك بحياة الإنسان فهي أشد فتكًا لما سواه؛ حيث تدمر اقتصاديات الدول وتقطع شبكة العلاقات بين الوحدات الاقتصادية وسلسلة الإمدادات بين مختلف القطاعات الاقتصادية.
ويمكن رصد آثاره الاقتصادية على الأسواق في جانبي الطلب والعرض على حد سواء، فعلى جانب الطلب ينخفض الإنفاق الكلي في الاقتصاد بسبب العزل الوقائي الذاتي والإحجام عن الطلب خوفًا من انتشار الوباء، والاقتصار على طلب أساسيات الحياة، وإلغاء أو تأجيل مخططات الإنفاق غير الضرورية. وهذا الانخفاض في الطلب الذي قد يكون مفاجئًا وحادًا ينعكس سلبًا على حجم مبيعات قطاع التجزئة في الاقتصاد. هذا الأثر بدأ واضحًا في قطاع التجزئة في الاقتصاد الصيني مؤخرًا بسبب كورونا الأخير، مما حدا السلطات اتّخاذ إجراءات موجهة أكثر لتحفيز الإنفاق الاستهلاكي. أما في جانب العرض، فلا يقل الأثر سوءًا عن الطلب؛ حيث يتأثر بعوامل ذاتية تتمثل في وقف العمل جزئيًا أو كليًا في المصانع والقطاعات الإنتاجية كإجراءات احترازية للحد من انتشار الوباء، كذلك يتأثر بسبب انخفاض الطلب السوقي مما يخفض مستويات الإنتاج وتعطل خطوط إنتاجية، وهذا قد يترتب عليه ارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة في حال العودة للإنتاج.
وفعليًا لا يمكن قياس حجم الأثر السلبي للوباء على الاقتصاد المحلي أو العالمي إلا بعد تلاشي أو انحسار الوباء وعودة الاقتصاد في مسار الانتعاش مرة أخرى. ومع ذلك هناك بعض التقديرات قدمتها دراسات ومراكز بحوث عن حجم الأثار الاقتصادية لفايروس كرونا الحالي على الاقتصاد العالمي، حيث تُقدر الخسائر في الاقتصاد العالمي سنويًا نحو 500 مليار/دولار، أو ما يعادل (0.6%) من الدخل العالمي، وتتباين حدة الأثر على الدول، حيث تكون أشد على البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل بنحو (1.6%) منها على البلدان المتقدمة (0.3%).
وعلى مستوى القطاعات الاقتصادية كما في الصين لكونها منشأ الوباء، انخفاض مؤشر طلبات قطاع الصناعة بنحو 12% وهو أكثر بقليل من مستوى أثر الأزمة المالية في 2008، وبأشد حدة انخفض مؤشر الخدمات بنحو 25% ، متجاوزًا مستويات أزمة 2008 بشكل كبير.
وعالميًا، على مستوى الطلب والعرض للتجارة الدولية، يلاحظ تدهور مؤشر مخزون الشحن للبضائع الجافة إلى مستويات الأزمة المالية السابقة. كما تضاعفت الأثار السلبية في ظل العولمة الاقتصادية وقوة التداخل بين الاقتصاديات الدول. فكثير من القطاعات الإنتاجية أوالاستهلاكية في العالم تعتمد بشكل كبير على الاقتصاد الصيني، حيث تعتبر الصادرات الصينية عنصرًا مهمًا في سلسلة القيمة المضافة ومستلزمات الإنتاج في مختلف الدول بما فيها المتقدمة، لا سيما في بلدان مصدرة مثل: اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وهو ما سيؤدي إلى تأثر صادرات هذه الدول أيضًا.
على مستوى القطاع المالي، قد ترتفع تكاليف الإقراض وفرض قيود إضافية على تقديم التسهيلات المالية للأفراد أو الشركات، نظرًا لتشكك البنوك من الملاءة المالية للمقترضين في ظل هذه الظروف، مما يعمق أزمة السيولة مرة أخرى كما في أزمة 2008.
ومع ذلك يبقى صنّاع القرار على مستوى العالم عاملًا مهمًا في كبح حجم هذا الأثر على الاقتصاد العالمي. فالأزمات الاقتصادية السابقة تمثل دروسًا وتجاربًا لاتخاذ سياسات وقرارات تحد من هذه الأثار المحتملة.
————————
أستاذ الاقتصاد بجامعة أم القرى
@Prof_AlAbdali
نسأل الله السلامة والعافية