أزمة كورونا ستنتهي بإذن الله قريبًا..ولكن تداعياتها السلبية، والإيجابية ستستمر.
كثر الحديث عن التأثير السلبي لهذا الوباء على الاقتصاد العالمي، وأخطاره الآنية على الصحة العامة. ومع أنني لا أخالف المتشائمين، وقد أتفق معهم في بعض ما ذهبوا إليه، إلا أنني متفائل بطبعي، وفي هذه النائبة لي أسبابي.
فرغم كل الأضرار التي لا تخفى، وأهمها خسارة الإنسان، سواء لصحته أو عمله أو حريته، إلا أنني مع ذلك أرى المكاسب والدروس المستفادة، وهي عديدة، خاصة عندنا، ولله الحمد والمنة.
وفيما يلي ألخص بعضها:
– في نظر الكثيرين كانت السعودية متأخرة بخطوات عن العالم الأول في الخدمات والحقوق الإنسانية، في القيم والمثل الحضارية، وفي القدرات التقنية والتنظيمية. لكن هذه الأزمة أثبتت أننا نتجاوز بعض الدول ”المتقدمة“ بأميال عندما يتعلق الأمر بتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية والخدماتية لمواطنينا، فحسب منظمة الصحة العالمية، خدماتنا نسبة الى عدد السكان تتقدم على دول كبرى مثل: الولايات المتحدة، وإستراليا، وفرنسا.
– ساعدتنا قيمنا ومثلنا الإسلامية والعربية على التعامل مع الأزمة بتكاتف وتضامن وتناغم يفوق بمراحل ما تعامل به الغرب، خصوصًا، مع الأزمة، وأشار أمين عام منظمة الصحة العالمية بقرار خادم الحرمين الشريفين بتقديم الخدمات مجانًا لكل مواطن ومقيم ومخالف لنظام الإقامة بدون تفرقة. وساعدت القدرات الإدارية والتنظيمية، والبنية الرقمية والمهارات التقنية والعلمية، على التعامل مع الوباء منذ البداية بكفاءة أشادت بها منظمات دولية.
– أثبت المواطن والمقيم أن الثقافة لا تقاس بالشهادات العالية، والوعي لا يتطلب العيش في بلدان ”متقدمة“ فمفهوم طاعة ولي الأمر يفوق ما جاءت به الديمقراطيات الغربية من مفاهيم.
ومفهوم الحرية الملتزمة بالمصلحة العامة والمنضبطة بالأنظمة والقوانين والمحددة بعدم التعدي على حريات الآخرين، هي الأجدى والأقدر على التعامل مع التحديات والكوارث والظروف الاستثنائية.
– اتضح أن قيادتنا السياسية تستحق فعلًا قيادة العالم في هذه المرحلة. فمن خلال رئاستها لقمة العشرين استطاعت المملكة أن تجمع دول ومنظمات وهيئات وقطاعات مالية وعمالية وتجارية دولية على اتجاه واحد، ومشروع موحد وجبهة متحدة لمواجهة العدو المشترك.
ورغم مراهنة البعض على صعوبة الاجتماع والتنسيق في هذه الظروف، تمكنا بكفاءات وطنية من عقد أول قمة افتراضية في التاريخ، تجمع عشرات الدول الكبيرة، والمنظمات العالمية، والاتفاق على قرارات غير مسبوقة لمواجهة المشكلة وتداعياتها ومؤسسة الأنشطة والتوصيات الموضوعة، وصياغة السياسات ووضع الآليات العملية للتنفيذ والمتابعة.
– وفي الداخل، أثبتت مؤسسات الدولة قدرتها على التعامل الفوري والوقتي مع الأزمات بتنسيق عالٍ بين الجهات المختلفة، وبقيادة يقظة وحازمة، وبكفاءة عالية. فالقرارات المتتالية، اليومية واللحظية، منذ اليوم الأول كانت سلسة بقدر ماهي شاملة ومبدعة، قوية وشجاعة.
ومثال عليها حزمة المساعدات السخية للقطاع الخاص، وخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وصرف ٦٠٪ من رواتب موظفيها السعوديين.
والتنفيذ تم بمستوى عالٍ من الكفاءة والمهارة والابتكار. وقرارات صعبة من قبيل تعليق صلاة الجماعة والعمرة والزيارة للمسجد النبوي، سبقت بأسابيع قرارات مماثلة بشأن دور العبادة اتخذتها بعد تردد حكومات أخرى، ومن بينها دول كبرى.
– وفي وقت قصرت فيه بعض البلدان في توفير الخدمات الصحية والغذائية والعامة لمواطنيها ومقيميها، لم نجد في بلادنا إلا الوفرة في كل شيء، بما في ذلك الخدمات الخاصة بكورونا، من مستشفيات وفنادق خصصت للعزل الصحي. أما المتاجر والمطاعم والصيدليات فقد فاق المعروض الطلب، ووفرت خدمات خاصة، كالتوصيل المجاني، وتقديم الخدمة للمتسوق خارج المحلات، وإلى السيارات.
– وساعدت بنية الاتصالات الرقمية في تيسير الحصول على الخدمات عن بُعد، ومن ذلك التدريس والعمل والتعاملات المالية والحكومية والخدمات التجارية والعامة والتسوق والترفيه، وبدون بطء أو انقطاع.
هذا الاستعداد المسبق والتطور التقني وفقًا لرؤية السعودية ٢٠٣٠ ساهم في تأقلم الناس مع التغيير بسلاسة وكفاءة، فمن منا لا يجيد التعامل مع البنوك والمتاجر والمستشفيات وغيرها من الجهات الخدمية عبر التطبيقات أو الهاتف أو الأجهزة الإلكترونية؟
– العادات المكتسبة خلال هذه الأزمة سواء الشخصية والأسرية، فيما يتعلق بالنظافة والتعامل الآمن والتواصل الاجتماعي، ستبقى معنا.
كما ستبقى فوائد التجارب الجديدة التي أثبتت نجاحه وفعاليتها في إدارة الأزمات والطوارئ، والتعليم والتسوق والعمل عن بُعد، وماتم إضافته وتطويره في البنية الصحية والاتصالات الرقمية والخدمات العامة.
– كل هذا سيفتح أبوابًا جديدة لاقتصاد جديد. فالعالم يتحول اليوم إلى قرية افتراضية واحدة، والتحول الرقمي والتقني السريع، والهائل في شتى المجالات سيلغي كثيرًا من أنواع الاقتصاد التقليدي ويستبدلها بأنواع أخرى، والرابح من يسبق غيره إلى المقاعد الأولى لهذا القطار الطلقة.
فالطلاب والأسر والأساتذة الذين أدركوا مزايا التعليم عن بُعد، وأصحاب العمل والموظفين والعملاء الذين استمتعوا بمزايا العمل بالتواصل الرقمي، والمواطن والمقيم والزائر الذين تعودوا على الخدمات الحكومية والعامة الميسرة عبر “أبشر” والتطبيقات الرقمية، سيرغبون حتمًا في الاستفادة من التجربة المؤقتة لتصبح دائمة، ويدرسون السبل التي تمكنهم من استبدال وسيلة بأخرى، أو الدمج بين الوسائل، في المدرسة والجامعة، في الشركة والمتجر، وفي سائر التعاملات العامة.
نعم، لتجربة كورونا جوانبها السلبية وأبعادها المؤلمة، خاصة على الصحة العامة، والحياة الاجتماعية، والعمل والحركة والنشاط التجاري والمالي، ولكن لها أيضًا فوائدها وجوائزها لمن يحسن الاستفادة من التجارب القاسية، ويبحث عن بصيص النور في قلب الظلام، والأمل في رماد اليأس، والمصلحة في وسط الركام. فرب ضارة نافعة، وتفاءلوا بالخير تجدوه.