لقد جاء الإسلام برسالته العالمية فكانت رحمة للعالمين، وهدى الله بها بشرًا كثيرهم على الحق المبين.
لكل أمة في ماضيها حوادث بارزة، ومواقف مشرفة، وعلى هذا أصبحت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس؛ لأن فيها (رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
إن من الرجال الصادقين الأوفياء شخصية عظيمة في تاريخنا المجيد، ساهمت في خدمة ثقافتنا الإسلامية قولًا وعملًا، ففي التأليف متقنة، وفي الخطابة مبدعة.
هو الشيخ أحمد قمرالدين بن علي – رحمه الله – من إذا كان ذكر علماء جزر القمر فهو في مقدمتهم نظرًا لجهوده منذ نعومة أظفاره إلى لقائه بربه.
حياته العلمية بدأت في وقت مبكر بعد ولادته في مدينة (مبيني) بمنطقة همهام من جزيرة القمر الكبرى ١٨٩٢م من أب يسمى علي مسوما خرج من أسرة علمية في مدينة(بنغواكوني) والتي خرج منها الشعراء الذين كانوا مبدعين في إجادة الشعر القمري على ممر التاريخ.
برزت سمات ثقافته الواسعة منذ طفولته إذ تعلم قراءة القراءن وهو صغير في مدينة (بوني) من مدن منطقة همهام إلى أن وصل إلى السابعة من العمر فأخذه والده إلى مسقط رأسه (بنغواكوني) من هنا تعلّم الشيخ أحمد قمر الدين على يد والده من عقيدة وسيرة وفقه وتجويد وقواعد النحو، فحفظ الأربعين النووية من الحديث النبوي.
ولم يزل محبًا لطلب العلم إلى أن التقى بالشيخ قاسم أحد علماء جزيرة القمر الكبرى، والذي تخرج من مدرسة فاضل بزنجبار.
وفي العاشرة من عمره انتقل إلى عاصمة جزر القمر مروني، والتحق بالمدرسة الفرنسية الرسمية وتعلم اللغة الفرنسية وأتقنها كتابة ونطقًا بعد نجاحه من الامتحان.
وفي وجوده بالعاصمة كان شغوفا بالثقافة العربية فلازم أحد علماء العربية فيها، وهو الشيخ ثابت؛ حيث تعلم منه دروس اللغة العربية.
وفي السابعة عشر من عمره نال منصب (كاتب عدل) بمحكمة قضاة (نسجيني) عاصمة منطقة إسنراي؛ حيث كان الشيخ عبد اللطيف مسافوم قاضي المنطقة.
كانت رحلاته إلى خارج جزرالقمر كثيرة وهو في باكورة شبابه، فسافر إلى جزيرة مدغشقر، ثم إلى جزيرة موريس الواقعتين في المحيط الهندي.
وبعد وصوله إلى جزيرة مدغشقر تم تعيينه مترجمًا بمكتب الصحافة بتناناريف عاصمة مدغشقر فظل في الوظيفة خمسين عامًا إلى أن ارتقى إلى مناصب كثيرة، منها محافظ الحكومة الاستعمارية في مدغشقر التي كانت تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، وبعد ذلك وصل إلى التقاعد بعد حصوله على أوسمة كثيرة.
ولكن بعد الحديث عن حياته العلمية يهمنا خدمته لثقافتنا العربية الإسلامية حتى نكون على بينة من الأمر لهذه الشخصية التي تعد من عمالقة الثقافة العربية في جزر القمر.
لقد ذكرنا أنه سافر إلى موريس فمن هنا بدأ ينظم الشعر العربي حيث كان فيها الأديب الكبير الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن حماد المدني الصديقين الذي أخذ منه علم الصرف والنحو والبلاغة وفن العروض في نظم الشعر.
وبعد عودته إلى جزر القمر صار اسمه مشهورًا، فما من مناسبة إلا وللشيخ دور في نظم الشعر عند المدح وغيره،
وفي منظوماته هناك المنظومة الشعرية (القصد الأسني بأسماء الله الحسنى) مطبوع بدار المنار التونسي.
وهناك أيضًا في ميدان النحو والصرف (نظم متممة كتاب ملحة الإعراب للحريري)
وفي ميدان البلاغة والشعر له ديوان يضم أكثر من خمسين قصيدة في الوعظ والإرشاد والمدح والهجاء.
وفي ميدان الفقه له كتاب يسمى (الإرشاد)
وفي ميدان الثقافة اللغوية له كتاب (القاعدة الأحمدية لتلاميذ المدارس القمرية).
والشيخ أحمد قمر الدين في سعيه لخدمة الثقافة الإسلامية قام بمبادرة عظيمة في جزر القمر أثناء عطلة كان يقضيها فيها ١٩٦٧م لتفسير القرآن الكريم خلال شهر رمضان في بلده ( مبيني) والمبادرة كانت بجمع العلماء القمريين، وألقى كلمة إرشادية توجيهية اليهم بتأسيس جمعية علماء جزرالقمر بحضور كل من الأستاذ سالم ودعان من العاصمة مروني، ومن هنزوان الشيخ سالم عامر، إلى أن تكون الجمعية على نهج جمعية علماء المحيط الهندي الذي أسسها وترأسها لما كان في موريشيوس عام ١٩٣٥م إلى النهاية.
فلما كان الشيخ أحمد قمر الدين شاعرًا مبدعًا ذا براعة في النظم ظهر ذلك في فنون كثيرة، ففي المدح عند مقدم الحبيب عمر بن أحمد بن أبي بكر بن سميط إلى جزرالقمر قاضي قضاة زنجبار سابقًا ومفتي جزرالقمر إلى ١٩٧٥م قال قصيدة في مدحه منها:
أهلًا وسهلًا بالحبيب ومرحبًا
ياخير بدر ضاء فينا موجبا
ياخير من بقدومه فرح الورى
ياخير من زار البلاد فمرحبا
ونجد شعره في المدح والوصف يعطينا مدى حبه للغة العربية وذلك أنه في زيارة السيد أوغارد ناظر الأشغال الإسلامية في الحكومة الفرنسية لجزر القمر ١٩من يونيو ١٩٤٨م وهو جزائري الأصل نظم الشيخ أحمد قمر الدين قصيدة مدح لقدومه فقال:
تباهي بك القمر حضرة فخرا
بزغت عليها فلازلت بدرا
فأصبح تسجدلله شكرا
وتهتف فرحًا بنيل المرام
فشرفت شعبًا وعظمت قدرا
وأعليت في الكون شأنًا وذكرًا
وأحسنت ياعين إسلام أمرًا
وذلك ماكان يرجوه دهرا
فتم المراد وطاب المنام
لنصر الحقوق تقوم سريعًا
تشيد للأمن حصنا منيعًا
وتعدل بين الأنام جميعًا
ليحيي أغادر ويبقى رفيعًا
يدوم هماما عظيم المقام.
وعند وصول الأستاذ محمد محمود الصواف المستشار الثقافي للملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله الذي اختاره لزيارة الدول الإسلامية في ذلك الوقت إلى جزر القمر لتوطيد العلاقات بين الشعوب الإسلامية ألقى الشيخ أحمد قمر الدين قصيدة ترحيبية منها:
بزيارة الشيخ التقي نلنا المنى
فهو الخطيب الفهم يابشرى لنا.
وكذلك قصائده المرثية في إظهار الألم والحزن لفراق الإخوان والأحباب، فعند موت صديقه وقرينه الوفي الذي هو جدي من جهة الأب الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب الملقلب بالخطيب في مدينة ( مبني ) قال مرثية منها:
لاحزن إلانراه دون ما نجد
بموت من كان في الأمور يعتمد
نبكي أخًا كان في الإخوان ذاهمم
خطيبنا كان في الإرشاد يجتهد
شيخًا كريمًا رفيع القدر ذا شرف
وذا تقى كان منه يؤخذ الرشد
طرقت ياموت أستاذا له طلب
وهل كمن فقد الطلاب مفتقد
قد أفجعت بلد مبيني مصيبته
فالله يحفظها فالصبر يابلد.
وكذلك عند وفاة الشيخ سالم ودعان أحد أصدقائه ومن العلماء البارزين في جزر القمر نظم مرثية في شخصيته فقال:
لاحي منفردًا بطول بقاء
فاصبر فكل مصيبة بقضاء
ماجل خطب ثم قيس بغيره
إلا وهونه القياس لراء
والرزء يعظم قدر وقع مصابه
وأشده ماحل بالعلماء
والخطب أدهش حين يأتي نعيه
يستل أهل الفضل في الأرجاء
رزئي بسالم عم كل مصيبة
يادهرمه قد زدت في النكباء.
وفي مناسبة وصول الطائرة الأمريكية لأول مرة إلى القمر ورجوعهاسالمة عام ١٩٦٩م كان شعوره إثبات ذلك بالشعر نظمًا فقال:
تبارك الخالق كل عالم
حمد المن كرم ابن آدم
فضله فنعم ماقدكرم
إذ (علم الإنسان مالم يعلم)
نؤمن بالله وبالقرآن
فرقانه الحكيم ذي البيان
كتابه الصالح للأزمان
فضلًا لنا نحن بني الإنسان.
وبعد وقوفنا على دور الشيخ في خدمة ثقافتنا العربية ينبغي علينا أن نعلم أن حياته السياسية التي انطلقت منذ أن كان في مدغشقر مشتغلًا في اعلى المناصب ممثلًا المسلمين أمام الحكومة الفرنسية في المناسبات الرسمية الفرنسية، وكذلك الأعياد الإسلامية وغيرها من المناسبات الإسلاميةإلى أن عاد إلى مسقط رأسه جزر القمر، رؤساء جزر القمر حرصوا كل الحرص على تقديره واحترامه، فكان هو مستشارهم الخاص دائمًا من الرئيس السيد محمد شيخ والأمير السيد ابراهيم بن السلطان السيد علي والسيد أحمد عبدالله عبد الرحمن.
ومما يؤكد حبه لوطنه جزر القمر نظمه للنشيد الوطني الذي أراد أن يجعله بعد الاستقلال هو النشيد الوطني ولكن لم يتحقق ذلك حيث توفي قبل الاستقلال في ١٩٧٤ م والاستقلال من الاستعمار الفرنسي كان في ١٩٧٥م، وتم تشييع جنازته بموكب حكومي رسمي في مسقط رأسه مدينة مبيني بعد حياة طويلة مايعادل أكثر من تسعين عامًا قضاه في خدمة دينه ووطنه.
إنه رمز من رموز الثقافة العربية الإسلامية في جزر القمر، وساهم مساهمة كثيرة في تقريب جزر القمر إلى أشقائها العرب من خلال النظم والنثر، فحقًا تسميته بقمر الدين لأنه أضاء لجزر القمر طريقها إلى جامعة الدول العربية للانضمام إليها ١٩٩٣م.
جعل الله عمله خالصًا لوجهه الكريم، وأسكنه فسيح جناته وذلك هو الفوز العظيم.
——
إمام وخطيب المركز الثقافي الإسلامي بدرانسي شمال باريس في فرنسا
يتبع