أ. د. عائض الزهراني

الأوبئة وتغيير الأزمنة

رصدت المصادر التاريخية، تاريخ الأوبئة الطويل في العالم وفتكها بالملايين من حياة الأرواح البشرية، ويعرف الفيلسوف الطبيب ابن سيناء الوباء (بأنه فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح، وهو شديد العدوى وسريع الانتشار من مكان إلى مكان).
تُشكل الأوبئة الكارثية تداعيات خطيرة، ونقطة تحول، وتغير في تاريخ البشرية، ومنعطف تحول مصيري في تاريخ المجتمعات وسقوط قوى عظمى مسيطرة، وانحدار حضارات سائدة، وارتقاء قوى أخرى صاعدة تشكل علامات فارقة، تنقلها إلى مرحلة صنع الأحداث تاريخية،
ويؤكد المؤرخ الفرنسي “لوران هنري فينيو” (‏أن الأوبئة نتاج مشترك بين الطبيعة والمجتمعات، وأن انتشار وباء ما يشكل دومًا امتحانًا لمجتمع وحقبة، وأن الوباء يهدد الروابط الاجتماعية).
أثّرت الأوبئة على الحضارات منذ أول تفشي معروف قبل الميلاد خلال الحرب (بين أثينا وإسبرطة)،
ويوثق مؤرخ الرومان (كاسيوس ديو) تسجيل الوباء الأنطوني الذي اجتاح الإمبراطورية الرومانية، وعمّ أرجاء أوروبا، نتج عنه انهيارها وميلاد معتقدات وأفكار كانت نقطة تحول تاريخي اجتماعي أدت إلى تلاشي نظام العبودية الذي رسختها الأنظمة القديمة واضمحلال المعتقد الوثني، ممهدًا الطريق لحقبة ظهور الديانة المسيحية
وبعد عدة قرون شكل الوباء المليوني. جستنيان نسبة إلى الإمبراطور البيزنطي ملامح الزوال عندما اجتاح إمبراطوريته في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وقد أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا، وتسبب بوفاة 40 و50 مليونا،
فكان سببًا قويًا عجّل بنهاية الإمبراطورية البيزنطية، وبداية ميلاد حقبة الحضارة الإسلامية
كما شهدت أوروبا وآسيا العديد من الأوبئة الكارثية وراح ضحيتها الملايين
وأشهرها ما عرف باسم الطاعون الأسود وعُرف لاحقًا بالموت الأسود في منتصف القرن الرابع عشر بأوروبا الذي أسفر عن مقتل نحو 20 مليون شخص.

وكانت تداعيات الوباء الأسود تبلور تيارات وتوجهات جديدة صاعدة تاريخيًا، تسعى نحو تخطي حدود النظم الاجتماعية
في مواجهة ضغوط حادة
ومعالجة تناقضاتها المكثفة، وتنطلق من قوى اجتماعية مهمشة، وانتقلت أوروبا من نفق عصور الظلام وسيطرة الكنيسة والبابوية إلى عصور النهضة.

يواصل وباء كورونا الآن غطرسته وقوته بانتشاره في العالم، وينقش بصمته على كل نواحي الحياة فدول بأكملها شُلَّت وحدودٌ أُغلقت واقتصادات عالمية تباطأت، وترنحت معاقل الدول الكبرى، وفشلت صروح المنظمات الصحية عن إيقافه، وقررت الحكومات فرض حظر التجول وإغلاق الحدود وإلغاء التجمعات، وتعليق الصلاة في المساجد ودور العبادة.
ورسم الوباء ملامح أنماط للنظم الاجتماعية والعادات والموروثات التقليدية في مواجهة ضغوط حادة، من شأنها أن تكثف تناقضاتها الاجتماعية، وتبلور تيارات وتوجهات جديدة صاعدة تولد وتتكون، من رحم المشهد التاريخي العام الذي أطلقته الجائحة، وتعمل على تأسيس عادات اجتماعية، وأطروحات فكرية جديدة،
ويتساءل المؤرخ الفيلسوف المغربي هل سيشكل وباء كورونا حلقة أخرى أيضًا في سلسلة التحولات التاريخية التي تعصف بالعالم بطريقة دورية، وبالتالي يكون سببًا في وخز نظام العولمة الذي وصف بأنه النظام العالمي الجديد الأوحد.

Related Articles

One Comment

  1. مقال جميل دكتور عائض كجمال كاتبه
    احتوى المقال على استقراء للماضي ونظرة على الحاضر واستشراف للمستقبل.
    أوافقك الرأي سعادة الدكتور في أن كورونا سيخلق نقطة تحول كبرى وستنتهي بزواله نظريات كان العالم يراهن عليها وسيكون من نواتجه انتهاء عصر
    التسلح النووي وظهور عصر التسلح الطبي فجائحة كورونا كانت درسًا قاسيًا سيعيد ترتيب أولويات الدول وسياساتها الداخلية والخارجية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button