الثقافيةالمجتمعحوارات خاصةلقاءات رمضانية

الجفري: جدتي كانت ترتدي النقاب عند مشاهدة رجل في التلفاز

رجلٌ عصاميٌ بدأ حياته من الصفر، ولم يكن يجد ما يستعين به على دراسته الجامعية إلا العمل في قسم الشحن الجوي بالخطوط الجوية السعودية، ثم لم تتعبه الأحمال التي على عاتقه ولم تمنع من استكمال مسيرته العلمية والمهنية حتى غدت له مجموعة من الشركات والمؤسسات.

إنه رجل الأعمال والدكتور طارق الجفري، الذي يتحدث لـ صحيفة “مكة” الإلكترونية ضمن سلسلتها الرمضانية عن محطات هامة في حياته ومواقف تتجلى فيها روعة الماضي وجمال الحاضر وبإذن الله فخامة المستقبل، يتحدث فيها عن رحلته التجارية في الطيور مذ بدأ يودّع طفولته مبكرًا وعن سفره إلى السودان لعقد صفقات تجارية نيابة عن جده، والكثير من المواقف الطريفة في حياته، لاسيما الموقف الأبرز في تقديم التحية المدرسية للملك فيصل رحمه الله.

1- في البدء نتعرف على ابن مكة المكرمة؟

أنا طارق محمود هلال الجفري.

2- في أي حارة كانت نشأتكم ؟

ولدت، ونشأت في حارة جرول في شهر شعبان من عام 1377هـ. وحارة جرول من الحارات القديمة جداً وحسب ما عرفت من جدي السيد: سليمان محمد علي هلال _رحمه الله _ أنها كانت أرض مزارع وكان يقصدها الحجاج؛ للاغتسال من بئر طُوى.

3- أين تلقيتم تعليمكم؟

تلقيت تعليمي الابتدائي في مدرسة الفلاح، ثم انتقلت في المرحلة المتوسطة في مدرسة أم القرى، ثم المرحلة الثانوية في مدرسة مكة، ثم تلقيت تعليمي بعد الثانوية في جمهورية مصر العربية جامعة المنصورة بكالوريوس هندسة سلامة صناعية، والماجستير إدارة الأعمال، والدكتوراة في السلامة والصحة المهنية.

4- ماذا بقي في الذاكرة من أحداث عشتم معها عراقة الحارة؟

العادات والتقاليد في السابق كانت قانون يعيش به أهالي الحارة ولا يخالفونها وتعتبر ناموس حياتهم اليومية. فقد كان الجار يعتبر جاره من أسرته وقرابته يهتم لأمره وأمر أسرته. وكان الجار مربّي لأولاد جاره وله الحق في تعديل سلوكهم. كان الاحترام المتبادل بين الجيران بحيث يغار الجار على أهل جاره، ويخشى عليهم ويدافع عنهم لو تعرض أحد لهم. وكان النساء في ذلك الوقت يتمتعن بالحياء، والخجل. وأذكر أن شوارع جرول عبارة عن أزقة ضيقة فإذا حصل وإن تقابلت مع سيده تدخل رأسها في الجدار حياءً، وخجلاً. وأذكر أن جدي السيد: سليمان هلال_ رحمه الله_  كان من أهل الجاه والوجاهة. فكان من عادته أن يذبح قعوداً كل جمعة ويفتح باب داره ( الحوش ) بعد صلاة الجمعة؛ ليمر الناس وهم متجهون إلى بيوتهم ويأخذون منه ما يشاؤون. كما كان_ رحمه الله_ من أهل السلطة، والمكانة، والمهابة بحيث كان أهل الحارة يلجؤون إليه؛ لحل مشكلاتهم، وإصلاح ذات بينهم. كانت كلمته مسموعة. وبالمناسبة أول من أدخل مطاحن الحبوب كان هو _يرحمه الله _ وقد استوردها من إنجلترا في ذلك الوقت وقد يكون تاريخ استيرادها في الخمسينات الميلادية لا أجزم بهذا ولكن بالتقريب، كذلك أذكر أن أول شركة لنقل الحجاج كانت ملك له _يرحمه الله  _ ومعه شركاء لا أذكر أسماءهم حاليا، كان اسمها شركة (الكمال) كما أن أوراقها ورخصتها ونماذج تذاكر الركاب موجودة لدي واحتفظ بها حتى الآن.

ومن العادات أيضاً التواصل، والتواد، والسؤال، وتفقد الأحوال. فكان إذا حصل عند أحدهم حادث ما، أو حفل زواج فإن تكلفة الزواج من أهل الحارة فهذا يأتيه بالخرفان، وآخر يأتيه بالسمن، وآخر يأتيه بالرز، وآخر بالسكر، وأخر بالنقد، ويقومون معه بالواجب. كان هناك تراحم كبير، وود، وحب ومما أذكره أن بيت جدي كان أكبر البيوت بعد بيت السليمان وكان حوشه واسع جداً. فكان أبناء الجيران يأتون إلينا نلعب معاً فيه. كما أذكر أن أحد الجيران وقد كان عبداً مملوكاً لجدي وعتقه وأعطاه قطعة أرض من منزل جدي وبنا له فيها بيت صغير كان هذا الرجل رحمه الله بمثابة الأب لنا فقد كان يخاف علينا وكان أخي السيد: عبدالوهاب كثير المشاكل فكان يؤدبه وكان والدي_ رحمه الله_ يشد على يده. وكان من العادات الجميلة أن الخبز لا يشترى من السوق؛ لعدم توفره فكانت جدتي تعجن العجين كل يوم وأخذه فوق رأسي؛ لخبزه في فرن البخاري بالقبة حتى أنشأ الشيخ حسن كعكي أول فرن لخبز العيش، ومن بعده هاشم بدره وهكذا كان. ومن المظاهر الجميلة كانت الأزقة تضاء بالأتاريك حيث يحضرها( المنوراتي) ويعلقها بحبال على قائم خشبي عند الغروب ويعود لأخذها عند الفجر. كما أني أذكر بأن البيوت مزودة بحنفيات في كل دور يعبئها السقّا الذي كان يجلب المياه بالتنك من البازان.

5- في مرحلة الطفولة العديد من التطلعات المستقبلية.. ماذا كنتم تأملون حينها؟

من أجمل مراحل حياة الإنسان مرحلة الطفولة؛ بما تتميز به من البراءة، والأحلام الوردية، والتطلعات المستقبلية بالنسبة لي كانت مرحلة الطفولة مرحلة دراسة، وعمل بالرغم من أننا من عائله ميسورة الحال إلا أني كنت أحب الاعتماد على نفسي ففي سن السادسة عشر كنت أتاجر في الطيور، وأعمل في الحج، وأذكر ممن عملت معهم العم حسني دومان_ رحمه الله_ وهو مطوف جاوه، والعم سراج أبو العلا_ رحمه الله_. ومن ذكريات مراحل الطفولة اجتماعنا في بيت العائلة الكبير فكنا نعيش سوياً مع أبناء عمومتنا، وبناتهم، والجد، والجدة ونتجمع على سفرة أكل واحدة تجمع كل أفراد العائلة. وكانت ألعابنا بسيطة نعملها بأيدينا من صناديق شاي ربيع، ومن غطيان قوارير البيبسي، وبعض الأسياخ الحديدية ونقوم بتزيينها ببعض الورق الملون. ومن لا يملك ذلك كان يكتفي باللعب بالكفرات القديمة، أو إطار الدراجات النارية ويتفنن في خلق شيء من لا شيء؛ لللعب به. كما أذكر النوم فوق الأسطح؛ لعدم توافر أجهزة التكييف فكان النوم تحت الناموسيات في أسطح المنازل. والحقيقة بكل ما كان يحمله الماضي إلا أن النفس تترحم على تلك الأيام الجميلة.

6- تربية الأبناء في السابق بنيت على قواعد صلبة ومتينة.. ماهي الأصول المتعارف عليها في ذلك الوقت؟

تربية الأبناء في السابق كانت تعتمد على أسس صحيحة، وقواعد صلبة متينة فعلاً فكان المربي في البيت، والمدرس في المدرسة. وكان التطبيق العملي سائداً في كل المنازل؛ لأن الوالد والوالدة متابعون لأبنائهم يراجعون معهم الدروس. وأذكر أن والدي_ رحمه الله_ وهو خريج مدرسة الفلاح أيضاً كان يزور المدرسة؛ للسؤال عنا أنا وأخواني ولما يتمتع به أخي عبدالوهاب_ حفظه الله_ من الشقاوة، وكثرة المشاكل مع المدرسين والطلبة كان والدي دائم الحضور للمدرسة؛ لسماع شكاوي المدرسين عنه، ثم كانت والدتي _رحمها الله _ تتابع دراستنا وتهتم بأدق التفاصيل رغم أنها كانت أمّيه لا تقرأ ولا تكتب..! لكنها مع ذلك حفظت الكثير من سور القرآن الكريم بالسماع فقط وكانت تتمتع بحسن الأخلاق، ومخافة الله فجدّها كان من علماء مكة المكرمة الشيخ عبدالحميد قدس وأباها الروحي الشيخ عبدالله خياط رحمهم الله جميعاً. وبذلك نشأتنا كانت التأدب في التعامل مع الناس، واحترام الكبير، وتقدير الصغير، والتمسك بالدين، والثقافة، والعلم.

7- في تشكيل صفاتكم ساهمت الكثير من العادات والتقاليد المكية في تكوينها ما أبرزها؟

تعلمت من جدي_ رحمه الله_ السيد سليمان هلال الكرم المتناهي، وإغاثة الملهوف، والفصاحة، والبلاغة، والوقوف مع الحق، والدفاع عنه. وتعلمت من والدي صفات كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى ولكن ما تأثرت به فعلاً خوفه من الله، وحرصه على صلة الرحم، واستغلال منصبه؛ لخدمة الناس. وحب أهله، وقرابته، وحسن النية، والسعي للمثالية التي لم تعد موجودة اليوم في عصرنا الحديث. تربيت على تحمل المسئولية؛ بصفتي أكبر أخواني منذ صغري أعتمد عليّ في إدارة تجارة جدي_ رحمهما الله _وكان عمري _ آنذاك _ لا يتعدى الحادية عشر، وبعثني إلى السودان في عهد الرئيس النميري؛ لإبرام صفقه تجارية مع أحد كبار تجار الخرطوم وعمري لا يتجاوز الخامسة عشر عام ! . ثم ابتعثني للحصول على اللغة الإنجليزية وكان عمري _آنذاك _ لا يتجاوز السابعة عشر عام. وتعلمت منه فن الكتابة، واستقيت منه الكثير من العلوم الدينية مثل علم الفرائض، وشباك الوراثة، والمذاهب الأربعة، والفرق بينهم، وبعض الأحكام الشرعية في بعض الأمور وقد كنت أرافقه في سفرياته، ومجالسه التي كان يجلس فيها مع أساتذته وكبار مكة المكرمة رحمه الله وغفر له.

8- الأمثال الشعبية القديمة لها أثر بالغ في النفس.. ماهي الأمثال التي لازالت باقية في الذهن؟ ولماذا؟

من الأمثال القديمة والتي لا زالت حتى تاريخه تتداول في بعض المواقف مثلاً ( الكتاب باين من عنوانه ) وهذا المثل كان يطلق على أمر، أو موضوع، أوحادثة ما، أو قضية يعلم نتائجها فكانوا يقولونه على أن النهاية معروفة. ومن الأمثال أعطي الخبز لخبازه حتى ولو أكل نصه والمعنى منه أن تعطي الأمر للشخص المناسب والذي يفهم فيه. بمعنى آخر لو كانت هناك قضية في المحكمة فأعطيها لمحامي متخصص حتى ولو أخذ منك أتعاب كبيرة. هذا بالتعريف الآخر. وهناك الكثير من الأمثلة المشابهه لذلك.

9- الحياة الوظيفية.. أين كان لشخصكم القدير أول بداياتها وآخرها؟

عندما بلغت السابعة عشر من العمر زوجني والدي فاضطررت إلى البحث عن عمل بجانب دراستي فعملت في الخطوط العربية السعودية قسم الشحن الجوي وأذكر رئيسي سليمان الكريديس الذي كان يعاملنا وكأننا طلبة في الفصل فقد كان يستخدم عصا صغيرة لمن لا ينفذ الأوامر ! وقد عملت بالخطوط العربية السعودية قرابة العام حين كان مديرها كامل سندي _رحمه الله _وهو من أصدقاء والدي أيضاً، ثم انتقلت إلى العمل بميناء جدة الإسلامي في عهد الدكتور فايز بدر _رحمه الله _، وأستاذي ومعلمي فؤاد مختار وبقيت بالميناء قرابة إثني عشر عاماً متواصلة تدرجت فيها من كاتب صادر ووارد إلى مدير إدارة الأمن الصناعي، ثم انتقلت بعدها لتحصيل تعليمي العالي بمصر وحصلت على الماجستير في إدارة الأعمال، ثم تقدمت للدكتوراة في السلامة والصحة المهنية، وحصلت أيضاً على عدة دورات في السلامة والأمن الصناعي من بريطانيا، والفلبين، وسنغافورة. وبعد ذلك التحقت بالهيئة الملكية بالجبيل وينبع (مشروع ينبع) كموظف في إدارة الأمن الصناعي ونظراً لظروف مرض والدتي _رحمها الله _ رجعت إلى جدة؛ لأبقى بجانبها، والتحقت  بالعمل في عدة شركات مقاولات عامة. ثم أسست عملي الخاص فأنشأت مؤسستي الخاصة، ثم شركتي ولا زلت حتى الآن رئيساً تنفيذياً لمؤسساتي التي يديرها ابني زياد وابنتي الدكتورة خلود.

10- شهر رمضان وشهر الحج من المواسم الدينية والاجتماعية المميزة حدثنا عنها؟

أنا من أهل مكة المكرمة ورمضان في مكة له روحانيته الخاصة  عن باقي مدن المملكة. وأذكر أني بدأت الصيام وأنا في السابعة من عمري وكنت أفرح كثيراً بقدومه؛ نظراً لما يحمله من عبق الروحانية. وصلاة الفجر حاضراً في الحرم، وصلاة التراويح، والتهجد. وبالأكلات والمشروبات والحلوى التي كانت تخص شهر رمضان فقط. الجميل الذي أذكره أنني كما ذكرت نشأتي كانت في عائلة مترابطة وقد كنا نأكل جميعاً على سفرة واحدة إفطاراً، وغداءً، وعشاءً وفي رمضان يكون الوضع أجمل حيث كان النسوة في بيتنا يتناوبون على الطبخ بقيادة جدتي _ رحمها الله_، وعماتي ووالدتي وزوجات عمّاني فمنهم من تقوم بعمل السنبوسك، ومنهم من تقوم بعمل الفتة، ومنهم من تقوم بعجن عجين الخبز، ومنهم من تقوم بعمل الحلويات، والعصيرات والتي كان من أشهرها السقدانة، و المهلبية، وعصير التوت الطازج. كنا نجتمع على الإفطار وبعدها يؤمّنا جدي رحمه الله تعالى؛ لصلاة المغرب، ثم نعود لإكمال الإفطار، وشرب الشاي وبعدها نتوجه إلى المسجد؛ لأداء صلاة العشاء، والتراويح، ثم نعود إلى بيوتنا حيث كانت مراكيز نجلس عليها أمام بيوتنا على جلسات كانت تسمى (الدكّه) نتجاذب أطراف الحديث حتى الساعة العاشرة مساءً تقريباً ونعود لبيوتنا بعدها؛ لتناول طعام السحور الذي كان عادة الكشري أو الكشري مع اللبن الرائب، أو الزبادي والتمر. ثم بعد ذلك نتوجه إلى الحرم؛ لأداء صلاة الفجر. وفي عطلة نهاية الأسبوع كنا نتوجه للعب كرة القدم بعد صلاة الفجر مباشرة ومن ثم نعود للمنزل. كان من ضمن برنامجنا اليومي قراءة القرآن الكريم والتباري في عدد المصاحف التي تم ختمها. وكانت والدتي رحمها الله تضع لنا جوائز نقدية أو عينية لعدد مرات ختم القرآن. فكنا نختم القرآن عدة مرات. ثم من عاداتنا الجميلة المحببة الدروس الدينية التي كنا نحضرها بعد صلاة العصر وزيارة الأهل والأقرباء والإفطار عندهم أو عندنا عندما يأتون إلينا. والأجمل أن كل عائلة تأتي بأنواع من الأكل؛ لمشاركة الجميع فيه. جو أسري جميل ورائع بمعنى الكلمة.

11- تغيرت أدوار العمد في الوقت الحاضر وأصبحت محددة.. كيف كان دور العمدة في الحارة؟

العمدة في الحارة هو أستاذ ومربّي وحكيم ومصلح ويعرف سكان الحارة ويعرف أبناءهم، وبناتهم، وقراباتهم وحتى أصولهم. وكان من المهام التي يفعلها الإصلاح بين الناس والتوسط في الخير، وجمع التبرعات للمحتاجين من أهل الحارة، وتفقد أحوالهم وبالذات الأرامل والأيتام حيث كان عمدة الحارة يسعى عليهم ويتفقد أحوالهم ويقضي حوائجهم ويمثل أهل حارته أمام الجهات الحكومية وعمدة حارتي كان الشيخ حسن حياة _رحمه الله _ كان من أهل الخير والصلاح والتقى طيباً ومحبوباً من أهل الحارة؛ لما كان يتمتع به من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة.

12- القامات الاجتماعية من تتذكرون منها والتي كان لها الحضور الملفت في الحارة؟

من القامات الاجتماعية والتي كان لها تأثير في حارة جرول جدي السيد: سليمان محمد علي هلال حيث كان من أهل الخير ومن الذين يسعون في إصلاح ذات البين ومعاونة المعسرين  وفك أزماتهم ومساعدتهم أمام القضاء والترافع عنهم أمام الدوائر الحكومية والمحاكم الشرعية لوجه الله تعالى وقد كانت له مكانته الكبيرة بين أهل الحارة وكان من وجهاء مكة المكرمة. الشخصية الثانية كان السيد محضار عقيل _ رحمه الله _ القاضي بالمحكمة العامة والذي كان منزله بجوار منزل جدي بجرول وكان منزله يضم بئر طُوى وقد كان من الرجال العظماء أيضاً. الشخصية

الثالثة الشيخ عبدالله سرور الصبان والذي كان_ رحمه الله_ من أصدقاء جدي ومرافقيه وكان من الأثرياء الأفاضل. والشخصية 

الرابعة السيد إسحاق عزوز _ رحمه الله _وهو أستاذ والدي وقد كان أستاذ في مدرسة الفلاح أيضاً وله مواقف كثيرة مع والدي الذي كان يأخذني إلى مجلسه دائماً.

ومن الشخصيات التي تأثرت بها أنا شخصياً والدي السيد محمود سليمان هلال الجفري _ رحمه الله_ فقد كنت أستمتع جداً بالجلوس معه ومناقشة الكثير من الأمور الإجتماعية، والدينية، والفقهية؛ بما كان يتمتع به من اتساع في العلوم. فكان جلوسي معه سبباً في صقل شخصيتي وقد تأثرت كثيراً بفكره وقناعاته عن الحياة التي كان دائماً يعتبرها محطة للعبور. كما تأثرت جداً بلطافة وحسن خلقه وأدبه وتواضعه الجم والذي تعملنا منه كثيراً جداً أنا وأخواني. والشيخ علي الطنطاوي _ رحمه الله_ الذي كنت أحرص على حضور جلساته بمنزله بعمائر الأشراف بمكة كل يوم إثنين ، والشيخ محمد متولي الشعراوي _ رحمه الله_ عندما كان يعمل بوزارة الحج بالسعودية وكان من أصدقاء والدي _ رحمه الله _، والسيد هزاع عبدالله الجفري رحمهم الله جميعا.

13- هل تتذكرون موقفا شخصيا مؤثرا حصل لكم ولا تنسونه؟

المواقف التي لا أنساها أبداً حادث انقلاب حصل لإحدى السيارات المرافقة للملك فيصل _رحمه الله وغفر له _ أثناء توجهه إلى الطائف فعلم بالحادث ورجع ووقف حتى تم نقل المصابين من الحرس وعاد لسيارته؛ ليكمل طريقه.

الموقف الثاني عندما كنت أدرس في مدارس الفلاح في المرحلة الابتدائية قام الملك فيصل _ رحمه الله_ بزيارة المدرسة ووقفنا أمامه نحييه وقد كنت فصيح اللسان وعندي موهبة الإلقاء فطلب مني السيد محمد رضوان أن ألقي كلمة ترحيب بقدوم جلالته _ رحمه الله_ وكتب لي النص حتى أحفظه؛ ليكون الإلقاء عن ظهر غيب وقد حفظته فعلاً إلا أنني أمام الملك فيصل تلعثم لساني فارتجلت كلاماً من عقلي ضحك عليه الملك وضحك الحاضرون حتى الطلبة حيث قلت ( حياك الله يا والدنا الحبيب نورت مدرستنا والله يا ملك الباقي نسيته سامحنا).

14- المدرسة، والمعلم، والطالب ثلاثي مرتبط بالعديد من المواقف المختلفة.. هل تعرفونا علي بعض منها؟

أنا من طبعي كنت إنطوائي إلى حد ما ولكن مع ذلك كان لي أصدقاء من المرحلة الإبتدائية واستمرت صداقتي معهم حتى اليوم هم ليسوا أكثر من واحد أو اثنين ممن استمرت علاقتنا مع بعضنا البعض حتى تاريخه فلازلنا نتزاور ونتشاور ونلتقي من فترة إلى فترة. والمعلم كان بمثابة الأب في المدرسة وكان المعلم مكتبة متحركة تضم كل المعلومات، والخبرات وكانت أهدافه إخراج جيل مثقف متعلم يتحلّى بكل الصفات والأخلاق والأدب والدين. ومن المعلمين الذين تتلمذت على أيديهم في الثانوية الشيخ عبدالحميد فلمبان _ رحمه الله _ والذي شاءت الظروف والأقدار أن يكون أخ زوجة عم زوجتي بعد ذلك رأيته في حفل زواجي ذهبت إليه مسرعاً وقبلت يده ورأسه وذكرته بنفسي بذكرى لا تنسى فقد لسعني كف مرتب انقلبت مع إثره من فوق مكتبه _ رحمه الله _ ، والسيد محمد رضوان_ رحمه الله_، والأستاذ عبدالله بنجر، وأستاذ في المتوسطة كان يسمى علي المستر ووظيفته مراقب وكان مرعباً في الحقيقة كان يمسك عصاة طولها مترين يلسع بها من يقابله.

15- كثرت وسائل الإعلام في الوقت الحاضر وأصبحت مرافقة مع الناس في كل مكان.. ماهي الوسائل المتوفرة لديكم في السابق؟ وما أثرها على أفراد المجتمع آنذاك؟

وسائل الإعلام في وقتنا كانت المذياع الذي يعمل بالبطاريات الناشفة. وكانت الإذاعة محدودة في إذاعة القاهرة، ولندن، وإذاعة صوت الإسلام من مكة المكرمة.

وكان الكثير من سكان الحي لا يملكون المذياع إلا المقتدرين منهم وأذكر أن بن صادق أتى بجهاز واحد أعتقد ماركة فيليبس ووضعه في القهوة التي كانت بجوار منزلنا فكثر اجتماع الناس عنده؟ لسماع المذياع. ثم أذكر بعدها وصول التلفاز و اشتراه والدي  _ رحمه الله _ ووضعه في صالة كبيرة كانت بالدور الخامس من منزل جدي؛ خوفاً منه وحتى لا يسمع صوته. وقد كانت جدتي _ رحمها الله _ إذا ظهر المذيع على الشاشة تلبس الشرشف وتغطي وجهها (سبحان الله ! ) كم كان عندهم حياء وخجل ومخافة من الله.

ومن المواقف الطريفة أن أحد عماتي_ رحمها الله _كانت تنام في غرفة جدي؛ لخدمته دائماً وذات ليلة فاق من نومه عطشان فنادى عليها فلم تجب فقام من فراشه يبحث عنها فلم يجدها فتملكه الفضول وطلع إلى الدور الخامس حيث جدتي وباقي عماتي ينامون فسمع صوت رجل يتحدث أشهر مسدسه ودخل فإذا ببناته وزوجته أمام التلفاز وكانت ستكون كارثة ! لولا لطف الله وتدخل والدي ليخبره ويقنعه أن المذيع لا يراهم وبعد جهد جهيد حتى اقتنع بذلك وأصبح التلفاز عنده مرحباً به.

16- تظل للأفراح وقفات جميلة لا تنسى في الحارة.. ماذا تتذكرون من تلك اللحظات السعيدة؟ وكيف كانت؟   

الأفراح في الحارة كانت موجودة بصفة شبه دائمة وخصوصاً ليالي رمضان حيث تكثر الألعاب مثل لعبة المزمار التي كانت سمة من سمات أغلب حارات مكة المكرمة وأيام العيد ولياليه الجميلة. أما المناسبات الخاصة التي كانت تقام مثل الزواجات فكما ذكرت لكم سابقاً أن أهالي الحارة يتكاتفون مع أهل المناسبة حتى أكاد أجزم بأنه لا يدفع من جيبه ولا هللة؛ لكثرة ما يأتيه من أهل الحارة. وكانت تقام بأبسط التكاليف وبشكل متواضع جداً إمّا على أسطح المنازل، أو في الأحواش، أو في الطرقات الداخلية للحارة.

كذلك الأمر في حالات العزاء كان أهل البيت لا يوقد في بيتهم نار بل يأتيهم أكلهم من الجيران، وأيضاً كان الساكن الجديد يحظى بكرم أهل الحارة فيأتونه بكل ما يحتاج ضيافة كاملة لمدة ثلاث أيام وللأسف هذه العادات قد اندثرت حالياً.

17- الأحزان في الحياة سنة ماضية.. كيف كان لأهل الحارة التخفيف من وقعها ؟

كما ذكرت لكم أن أهل الحارة متكاتفين متعاضدين وكأنهم عائلة واحدة في الأحزان كفانا الله وإياكم الشر. كانوا يقفون بجانب أهل العزاء بالمال والنفس وكان نساء الحارة من أكثر المؤثرين في تخفيف المصاب بل كانوا ينامون مع أهل العزاء ولا يفارقوهم ويقومون بخدمتهم من طبخ وكنس وغسل إلى آخره.

18- الأحداث التاريخية الشهيرة في حياتكم والتي عايشتها.. هل تتذكروها.. وما الأبرز من تفاصيلها؟

أكبر حدث جلل علينا وعلى دولتنا وعلى العالم الإسلامي وفاة جلالة الملك فيصل _ رحمه الله وغفر له _وبالرغم من صغر سني حينها ولكني وجدت أن العالم كله بكاه ولأول مرة أرى والدي السيد محمود سليمان هلال يبكي. فقد كنت أعرفه صلباً متماسكا ذو شخصية عظيمة وقد كان بيتنا كله يبكي صغاراً وكباراً حتى الشارع.

والحدث الثاني وفاة جدي_ رحمه الله _ثم لحقه أصغر عُماني رحمهم الله جميعاً.

والحدث الثالث اقتحام جهيمان وجماعته الحرم المكي الشريف.

19- ما هي الألعاب الشعبية التي اشتهرت بها حارة جرول؟

جرول كبقية حارات مكة المكرمة ومنها المزمار وهو أشهر الألعاب في ذلك الوقت.

20- لو كان الفقر رجلا لقتلته مقولة عظيمة  لسيدنا علي رضي الله عنه.. هل ترون بعضا من  قصص الفقر المؤلمة؟

الفقراء في ذلك الزمن لم يكونوا فقراء رغم حاجتهم. من وجهة نظري أن التكاتف الاجتماعي بين أفراد الحارة وساكنيها لم يجعل للفقر باب يدخل منه لأي بيت من بيوتها فقد كانت البيوت عامرة بكل متطلبات الحياة من ملبس، ومأكل. وكان أهل الخير يبذلون الكثير؛ لإسعاد الناس وخصوصاً الأطفال.

21 – ماذا تودون قوله لسكان الحارة القديمة؟

أين هم؟ لم يعد أحداً منهم موجود تغيرت معالم الحارة وهدمت بيوتها وسكنها أُناس لا يعرفون تاريخها، ومآثرها حتى بئر طُوى تم هدمه ومُسح تاريخه ! . لم يعد أحد من أهل الحارة القديمة يا ابني موجود فكثير منهم انتقل لجوار ربه وكثير تركها وخرج ندعوا لمن مات منهم بالرحمه والغفران، وندعوا لمن بقي منهم بطول العمر والصحة والعفو من الرحمن.

22- رسالة لأهالي الأحياء الجديدة.. وماذا يعجبكم الآن فيهم؟

لم تعد تحتفظ الحواري اليوم برونقها الجميل المندثر بنيت العمائر الشاهقة، والأبراج ولم يعد سكان الحواري كما كانوا من قبل معروفين ومتعارفين وأصبحوا اليوم خليط من كل الجنسيات ولكن إذا كان هناك من يسمع رسالتي هذه من سكان جرول حارتي فأقول لهم إن هذه الحارة ضمت رجالاً ونساءً عظام لهم مواقف لا تنسى وتاريخ حافل.

23- كيف تقضون أوقات فراغكم في الوقت الحالي ؟ 

الحقيقة أنا ليس لدي وقت فراغ بالرغم أن ابني السيد زياد يدير أعمالي إلا أنني أحرص كثيراً على التواجد بمكتبي يومياً ثم أعود لمنزلي حيث أتفرغ للكتابة. وقد كنت أكتب في جريدة عكاظ مقالاً اجتماعيا  كل أسبوع، ثم كنت أيضاً كاتباً اجتماعياً في مجلة حائل الإلكترونية. ولدي صفحة على الفيس بوك أكتب فيها مقالاتي. وبعض من قصائد شعري، ولدي مكتبة زاخرة ألجأ إليها في أوقات كثيرة. وقد ورثت من والدي _ رحمه الله_ مكتبة أكبر وأعظم من مكتبتي. ولي أوقات أسافر فيها للاستجمام؛ لاتفرغ أيضاً لكتابة الشعر. أما يوم الجمعة فكما عودنا الوالد والوالدة _رحمهما الله _ فهو يوم مخصص لاجتماع العائلة من الأخوات والأخوان والأبناء والزوجات والأزواج ويكون ذلك بشكل دوري بحيث يكون كل أسبوع عند واحد من الأخوان.

24- لو عادت بكم الأيام ماذا تتمنون  ؟

ليتها تعود؛ لأنها كانت من أجمل الأيام. أتمنى أن تعود عاداتنا، وتقاليدنا، وعُرفنا الذي كنا نعيش عليه. أتمنى أن تعود تلك القيم العظيمة ولكن كما قلت في أحد قصائدي:

هيهات هيهات إن عودت ……. تلك الليالي بما أجملت

ليالي لها النفس تلهفت …….. وسنين بالآمال تعددت

25- بصراحة.. ما الذي يبكيكم في الوقت الحاضر؟

يبكينيَ حقيقة ما أصبحنا فيه من تفكك أسري، وضياع للهوية، واندثار العادات، والتقاليد، والقيم عند البعض. يبكيني المعالم الأثرية التي تم إزالتها ويبكيني على المستوى الخاص فقدان والدتي_ رحمها الله _ ، ويبكيني فقدان والدي _ رحمه الله_، ويبكيني جداً فقدان عمتي أخت والدي والتي ربتني ولم يكن لها أولاد وكنت أنا ولدها الذي لم تلده، وأخيراً يبكيني الظلم والطغيان وما يقع على المسلمين من اضطهاد، وضياع حقوق، يبكيني أيضاً دموع الأطفال ولا احتمل دموع النساء.

26- ماذا تحملون من طرف جميلة في دواخلكم ؟

أخي عبدالوهاب_ حفظه الله_ رفيق دربي هو أخ وصديق في نفس الوقت ولكنه كثير المشاكل. ويسانده في مشاكساته أخي خالد فقط كنت برفقة أخي عبدالوهاب ذات مرة على دراجة عادية كان يقودها وكنت أركب خلفه ونزلنا من منحدر قبلها كنت قد نبهته بخطورة ذلك فقد أكد لي أنه قادر على التوقف وعند نزولنا كان أحد الباعة المتجولين ماراً أمامنا وكان يحمل صحن فوق رأسه مليء بالكبيبة فما استطاع أخي إيقاف الدراجة؛ لسرعتها واصطدمنا به فطار وطار صحنه وسقطنا على الأرض وهرب أخي وبقيت أنا محاولاً مساعدة البائع وقد كانت حبات من الكبيبة داخله في ملابسي فكانت النتيجة علقة ساخنة من البائع.

ومن المواقف أيضاً لي صديق عزيز كنا أنا وهو نتمشى بالسيارة في أحياء مكة أيام الحج وكان أيضاً من المشاكسين وكان هناك أكله اسمها( اللنقطة ) وتوضع سلطة خاصة بها في كيس نايلون فكان صديقي هذا يفتح الكيس ويطلب مني قيادة السيارة بهدوء ليلقيه في وجه المارين بجوار سيارتنا فحدث أن السيارة تعطلت والرجل المتضرر هجم علينا فهربت أنا وتركت صديقي يأخذ العلقة الساخنة.

ولا زلت أذكر أنني أوقعت ذات مرة مشكلة كبيرة بين أخي عبدالوهاب ومجموعة من السقايين الذين كانوا يمرون أمام منزلنا فأخبرت أخي أن أحدهم قد ضربني فما كان منه إلا أن تشاور مع مستشاره أخي خالد وقررا أن يؤدبوا السقايين فكانت جولة رهيبة من الصولات والجولات انتهت بالنصر المؤزر وكنت أنا السبب فيها.

27- دكتور طارق لمن تقولون لن ننساكم؟

أقولها أولاً لوالدتي رحمها الله وغفر لها، ثم لوالدي رحمة الله عليه، ثم عمتي بدرية التي ربتني وتفضلت علي وعلى أولادي وسترتني بعد الله في الدنيا، ثم جدتي وجدي رحمهما الله، ثم أساتذتي ومشايخي الذين كان لهم الفضل الكبير علي أيضاً.

28- ولمن تقولون ما كان العشم منكم؟

أقولها لكل شخص ضحك عليه الشيطان فأنساه فضل هذه الدولة_وفقها الله _ وحكومتها عليه بعد الله واتجه إلى طريق الشيطان والخذلان. وأقولها لكل من تخلّى عن القيم والأعراف ونسي تاريخ أجداده وأمجادهم وأنساق خلف الملذات والملهيات.

29- التسامح والعفو من الصفات الإنسانية الراقية تقولون لمن سامحونا؟ وتقولون لمن سامحناكم؟

أقولها لوالديّ_ رحمهما الله_ وأرجو من الله أن يسامحني على تقصيري تجاههم،وأقولها أيضاً لعمتي رحمها الله وغفر لها، وأقولها لزوجتي وشريكة حياتي جزاها الله عنّي كل خير، ولبناتي الدكتورة خلود، والأستاذة عهود، ولابني زياد، ولموظفي شركتي سامحوني إذا قصرت معكم سامحوني إذا أخطأت في حق أحدكم، وأقولها لمن لا أعلم إن كنت أحسنت إليهم، أوأسأت إليهم ممن يقومون بخدمتي في منزلي.

أما عن نفسي فإني أسامح الكل والجميع إن أساءوا إليّ بقصد أو غير قصد.

30- كلمة أخيرة في ختام لقاء ابن مكة د. طارق الجفري؟ 

نحمد الله ونشكره على ما تفضل به علينا أن نكون من أبناء هذا الوطن وتحت هذه القيادة وأتمنى أن نربي أبناءنا على ما تربينا عليه من القيم، والدين، والأعراف ونغرس فيهم ما غرسه فينا أباؤنا، وأساتذتنا، ومشايخنا العظماء وأن لا ينساقوا خلف المغريات الزائفة.

وأشكركم جداً على تكريمكم لي بهذا اللقاء الممتع الذي أعاد لنفسي الحياة بالذكريات الجميلة والحياة الرائعة التي عشناها في ذلك الزمن الجميل.

أشكرك جداً أخونا الأستاذ/ عبدالرحمن الأحمدي ابن مكة المخلص الأمين؛ لجهودك القيمة وما تقوم به كابن بار من أبناء مكة.

وأتمنى أن يكون فيما ذكرته استفادة وفائدة وعذراً على الإطالة. تحياتي لك ولجميع العاملين معك في صحيفة مكة الإلكترونية. وكل عام وأنتم بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى