يعيش العالم اليوم أزمة صحية ألقت بظلالها على جميع مجالات الحياة، فأصبح لزامًا على قادة التعليم في الدول المتضررة بجائحة كورونا تفعيل البدائل التعليمية حفاظًا على سلامة المجتمع من خطر انتشار الوباء بين الطلبة في المدارس، ويأتي على قائمة أفضل البدائل (التعلم عن بُعد) بهدف استمرار العملية التعليمية وضمان سد الفاقد التعليمي بسبب تعليق المدارس. كان لهذا التحول الرقمي دور إيجابي في تنمية قدرات المتعلمين والكادر التعليمي والاداري في التعامل مع منصات التعلم الإلكتروني، كما حظى الطالب بمسؤوليات ودور أكبر في العملية التعليمية، تتمثل في التنظيم الذاتي والالتزام بحضور الدروس عن بُعد، وتأدية الأنشطة والأعمال المرتبطة بالمنهج في المواعيد المحددة، وأثمر هذا التحول أيضًا بزيادة فرص التدريب لمنسوبي المدارس وإدارات التعليم؛ حيث برزت العديد من جهات التدريب التي تقدم دورات وشهادات تدريب عن بُعد معتمدة، تتناول تلك الدورات مجالات عديدة يأتي في مقدمتها التعلم الإلكتروني والتعلم عن بُعد. كما أدى التحول السريع المفاجئ لبروز بعض التحديات والمشاكل أثناء التطبيق، لعل من أهمها عدم تهيئة الأنظمة التقنية على استيعاب الأعداد الكبيرة من المستخدمين للنظام بشكل متزامن، مما تسبب في ظهور العديد من المشكلات التقنية التي أثرت سلبًا على إتاحة الوصول لمنصات التعلم الرقمية، بالإضافة إلى غياب التصميم التعليمي السليم لعمليات التعلم عن بُعد، لذا لوحظ ضعف تفاعل المتعلمين مع المحتوى التعليمي والمعلمين والبيئة التعليمية الافتراضية، واقتصار معظم الأنشطة وعمليات التقويم المقدمة للطلاب على الجوانب المعرفية فقط مع إغفال الجوانب المهارية، واستثارة التفكير بأنماطه المتعددة. فمن منظور الاتفاق والاختلاف تباينت آراء الكثير من المتخصصين والتربويين حول تقييم جودة التعلم عن بُعد في هذه المرحلة، وقدرته كبديل للتعليم المدرسي في تحقيق نواتج التعلم المخطط لها مسبقًا، وكيف يمكن أن يكون التعليم في مرحلة ما بعد كورونا، وهل سيحظى التعلم الإلكتروني بمكانة بارزة المرحلة المقبلة، صُنفت تلك الآراء إلى ثلاثة اتجاهات مختلفة، تتناولها هذه المقالة بشكل موجز. يرى الاتجاه الأول بضرورة قبول نظام التعلم عن بُعد كنظام بديل مؤقت لمواجهة الأزمة بغض النظر عن المشكلات المرافقة لتطبيقه، والنظر لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الأهداف المرسومة، واعتبارها تجربة.
تحتاج لتقييم ختامي متكامل قبل اعتمادها للتطبيق في المراحل المقبلة. ولم يتطرق هذا الاتجاه إلى عمليات التقويم البنائي ودورها في حل مشكلات التطبيق. ويتبع الاتجاه الثاني المنحى الإيجابي للتعلم عن بُعد، حيث يرون أنه من الطبيعي أن يواجه أي تحول جديد العديد من المشكلات والتحديات، والتي يمكن تجاوزها تدريجيًّا مع تفعيل خطط علاجية وتدريبية تسهم في التعديل المستمر لمسار التعلم عن بعد؛ إضافة إلى إسهام المرحلة الحالية في تسريع الخُطى لتنمية مهارات التحول الرقمي. ووفقًا لهذا الاتجاه فإن التعلم عن بعد في هذه المرحلة قد حقق نتائج تفوق ما يحققه النظام التعليمي التقليدي السابق، وينبغي إقرار برامج ومسارات تعلم يتم تقديمها للطلاب عن بعد بشكل كامل. بينما يشكك بعض المتخصصين في جودة التعلم عن بُعد لمواجهة أزمة كورونا، وضعف كفاءته في تحقيق أهداف العملية التعليمية، لغياب الجدية والصرامة في تطبيق النظام التعليمي وضعف الرقابة المدرسية، وعدم تبنيه أي اتجاهات علمية حديثة في التعليم؛ حيث أن التعليم المقدم من خلال منصات وقنوات التعلم هي عبارة عن عمليات تلقين للمعلومات من خلال قنوات رقمية، شأنه في ذلك شأن التعليم التقليدي. أزمة تقييم نظام التعلم عن بُعد لمواجهة جائحة كورونا هي امتداد لصراع الأفضلية بين التعلم الإلكتروني والتعلم التقليدي، واستمرار للجدل القائم بين المناصرين والمخالفين للتعلم الالكتروني، بينما ذهب سابقًا نخبة من التربويين إلى امكانية الدمج بين النظاميين لتحقيق نتائج أكثر كفاءة، وختامًا؛ أرى أن هذه المرحلة تستدعي الإقرار والقبول بنظام التعلم عن بُعد كخيار استراتيجي للمستقبل، وإعادة النظر في الخطط التنفيذية للتعلم عن بُعد التي تم تطبيقها لمواجهة الأزمة الحالية، وتعديلها في ضوء التغذية الراجعة الميدانية، والتأكيد على استمرار تأهيل الأنظمة والكوادر التعليمية والمتعلمين، وإتاحة مسارات وبرامج تعليمية وتدريبية مدمجة في المستقبل بإمكانها أن تسهم في تنشئة مجتمع تعليمي يمتلك مهارات التعلم الرقمي ويكون قادرًا على تجاوز الأزمات؛ لتحقيق أهداف رؤية 2030م.
السلام عليكم ورحمة الله وبىكاته
شكرا د.أحمد الصاعدي على هذا المقال الرائع .
وجعله الله في ميزان حسناتك.
مقال مميز من أستاذ متميز علما وخلقا،
ولعل هذا المقال د. أحمد يكون نواة لدراسة بحثية موسعة تنتفع بها الجهة المسئولة في وزارة التعليم، وأطراف العملية التعليمية والتعلمية.