تمر السنون سراعًا دون أن نشعر بها إلا أن هناك أوقاتًا معينة تجبرك على الرجوع بالذاكرة إلى الوراء، ربما لالتقاط الأنفاس، والتأمل فى مسيرة تلك السنوات فالعودة للذكريات، ومشاهد الطفولة في القرية والفرحة بقدوم شهر رمضان، تعد تأكيدًا للهوية وإيقاظًا للذاكرة التي تأثرت بوهج الحياة المشتعلة في المدينة.
ففي تلك القرية الصغيرة التي لا تتعدى حدودها العشرات من الكيلومترات، والتي تقبع بين جبال السراة في الباحة علقت في ذهني ذكريات شهر رمضان المبارك التي بدأت أدرك تفاصيلها في أواخر عقد التسعينيات الهجرية فرمضان القرية في ذلك الزمان امتاز بالبساطة والبدائية بعيدًا عن ضجيج المدينة وصخبها.
ومن ذاكرة المكان استعرض هنا بعض بقايا رمضان في القرية حيث تنطلق مسيرة النهار الرمضاني مع بداية إرسال الشمس خيوطها الذهبية التي تملأ الأرض حيوية فتدب الحياة فيها، وينطلق الرجال والنساء إلى أعمالهم دون توقف رغم أن معظم هذه الأعمال كان شاقًا للغاية بسبب طبيعة الحياة الاقتصادية فى القرية التى كانت تعتمد بشكل أساسي على الزراعة، ورعي الأغنام إلا أنهم كانوا يتحملون ذلك فى صبر وجلد؛ حيث تشارك النساء مساعدة أزواجهن في الزراعة وجمع الحطب، وإحضار الماء من الآبار إلا أنهن سرعان ما يعدن لبيوتهن، لتجهيز طعام الإفطار ويواصل الرجال عملهم إلى ما قبل لحظات الغروب؛ حيث يحثون الخطى راجعين إلى منازلهم فإذا وصلوا استمتعوا بالجلوس في أماكن مخصصة تسمى (الدكة) بجوار البيوت يتبادلون فيها الأحاديث المتنوعة قبل أن يتوجه كل واحد منهم إلى منزله لتناول طعام الإفطار.
ويلجأ شباب القرية في رمضان للعب كرة الطائرة، وأحيانًا كرة القدم، في الدورات الرمضانية الليلية، وعادة لا تخلو أي قرية من ملعب لكرة الطائرة، فهي الرياضة المرغوبة في شهر رمضان، حيث يمارس لعبها عصرًا لأن المجهود البدني فيها أقل من كرة القدم، ويستطيع لعبها صغار السن والشباب.
وكان ما يميز القرية في رمضان، تلك الرائحة الزكية التي ما زالت عالقة في حاسة شمي وانبعاثها من داخل البيوت أثناء إعداد وجبة الفطور رغم قلة الإمكانات وعدم تنوع الأصناف التي تعج بها موائدنا في هذا الزمان وما أجمل لحظات ما قبل الإفطار ! حيث كانت توكل لنا مهمة توصيل بعض الأكلات إلى الأقارب والجيران.
وإن تحدثت عن القرءان في مسجد قريتي فإن حروفه المنبعثة من حناجر من كانوا يتلونه رغم قلتهم كانت تمتزج مع رائحة جدران المسجد الطينية؛ حيث ما زال عالقًا في الذاكرة تلك المصاحف ذات الغلاف الأحمر التي كانت تشع نورًا بين يدي قراءها في شهر العبادة.
وتقودني الذكريات للحديث عن رحلة الذهاب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة فهي رحلة لا تستغرق أكثر من أربعة وعشرين ساعة ذهابًا وإيابًا؛ حيث ما زلت أتذكر أول رحلة للعمرة قبل أربعين عامًا، ويا لها من رحلة ! ما زالت كل تفاصيلها عالقة في ذهني رغم حرارة الأجواء وعناء السفر وحداثة سني إلا أن وعثاء السفر زالت بعد رجوعنا للقرية، وتهافت الجيران والأقارب بعد الإفطار لتهنئتنا بالعمرة وسلامة الوصول وجلوسي مع أقران سني وحديثي المستفيض عن تلك الرحلة وما شاهدته فيها من عجائب الدنيا السبع ونظرات الدهشة تكاد تخرج من أعينهم وهم يمنون أنفسهم برحلة مثل تلك التي ظفرت بها.
وما أجمل ليالي رمضان؛ حيث كانت الحياة الاجتماعية بعد انتهاء صلاتي العشاء والتراويح، تعتمد على السهرات الرمضانية والتي كانت تعطى هذا الشهر الكريم مذاقًا خاصًا وحيوية تميزه عن باقى شهور العام. فكانت السهرات تقوم على نظام بسيط ولكنه بديع، حيث يجتمع الأقارب والجيران في كل ليلة عند أحدهم يتجاذبون أطراف الحديث حول رحلتهم اليومية في طلب الرزق ويتناولون ما تجود به نفوس أصحاب البيت من طعام وشراب، أما الشباب وصغار السن فكانوا يحييون ليلهم ببعض الألعاب الشعبية القديمة.
وعلى الرغم من أن القرية لم تعد القرية نظرًا لغزو المدنية لها إلا أن رمضان بلاشك يذكرنا بصورة القرية القديمة من حيث العادات والتقاليد التي لازال سكانها يحاولون التمسك بها خصوصًا في هذا الشهر الكريم، فجمال القرية يفوق جمال المدينة من حيث الألفة والاجتماع والمشاركة في حضور المناسبات وهنا يتوقف نزف قلمي بعد استعادة تلك البقايا الجميلة التي لم يعد لأكثرها مكانًا في عالمنا اليوم.
0