وخرجت جثةُ مُغني المدينة في محفةٍ طويلةٍ على أكتاف بعضِ جيرانه الذين أسرعوا لحملها لتكون وسيلتهم للخروج من باب العمارة وقت حظرالتجوال ..ابتعد البعضُ الآخر مرتعدًا وهو يحدقُفي الجثة المنتفخة التي لولا انبعاث رائحة الموتمنها لم تكن لتخرج من باب الشقة التي يعيشفيها المغني وحيدا.
..حدقوا في حنجرته المنتفخة الملتهبة التي تناثرت منها أحباله الصوتية بينما كانت كفه قابضةً على مزق من أوتار عوده .. حدق الطبيبُ بعينين جاحظتين …قال بصوتٍ مختنقٍ من وراء كمامتين سميكتين : اختناق كوروني أوقف الغناء ..
تفرّق المعجبون على الأرصفة .. بلّلت دموعُهم كماماتهم وقفازاتهم ..تراصوا متباعدين تحت أشجار تناثرت عليها القفازات الملقاة من العمائر والبنايات ؛ فبدت كأنها نصبٌ لأشلاءٍ آدمية تتسلق الشجر هربا من مُفترس ضارٍ لحق بها . وُضعت الجثة في عربة الإسعاف.. صرخ أحدهم يطالب بعودة الجميع إلى البيوت حتى يبدأ تعقيم المكان. جرّوا سيقانهم المُتيبّسة من الجلوس في البيت اختباءً من الفيروس .. نزع كل منهم كمامته وقفازه وطوح بهما في الشارع قبل أن يدخل بيته .. دفعت الريحُ النشطةُ الكماماتِ والقفازات المُتناثرة في كل اتجاهٍ .. تجمّع عددٌ كبيرٌ منها .. بدت الكمامات أفواها خرساء على وجوه أحصنة عربات الحنطور الواقفة في إعياءٍ بجوار القلعة التي أُطفئت أنوارها .. القفازات أكفًّ تدق على الأبواب المغلقة .. تمسكُ أعمدة النصب التذكاري للجندي المجهول ، تشد ساقي تمثال سعد زغلول ..ساقي الحصان الحجري الذي يجلس عليه تمثال محمد علي .. القفازات التي حملتها الريح إلى البحر بدت على الموج أكفًا تستغيث ..تسدّ حنجرة النوارس ..تُثقلُ سيقان الموج ..تخنق عنفوان صوته حتى ثار ..ارتفع في هياجٍ غير متوقع ..نزل بعنف على رأس الصخور.. انحدرتْ كثيرٌ من الكمامات والقفازات على الرمل ..جفّفتها الريح.. أعادتها إلى قلب المدينة أفواها وأكفًا تزحفُ في الشوارع المظلمة الخاوية بحفيفٍ يسمعه المختبئون في بيوتهم متقاطعا مع صوت سيارة الإسعاف الذي لا يتوقف .
من الجميل في هذه القصة ابتعادها عن المبالغة في العواطف ، ورغم رمزيتها إلا أنها لا تشوه حقيقة ، كما أنها منفتحة على الراهن الذي نعيشه ، والكاتبة من خلال سردها المقتصد احتفت بالحسي جدا – فيما يمكن تسميته بالسرد العاري ، وإن كان لا يخلو هذا السرد من مكر الصنعة وبراءتها ..
طرحتَ زوايا متفردة في نقد السرد أستاذ محمد ، كل زاوية منها تستوجب أن يُفرد لها مقالُ نقدي . وافر الشكر والتقديم لما تقدم من إسهام جاد في حقل النقد والإبداع الأدبي .