المقالات

“رحم الله أبي”

إمام الحرم
(20)

عند رحيل الأب تتوالى المواقف تِباعًا، لتُخبرك أنَّ فراغًا كبيرًا حدث في حياتك، وهُوَّةً في نفسك مُلئت شوقًا ثم فاضت لَوعةً، على ذلك الغائب جسدًا، الحاضر روحًا وقلبًا، ولسانُ حالِكَ يُردِّد رحل الأعمقُ حُبًّا، الأصدقُ قولًا، والأكثرُ خوفًا وحرصًا، ثم تتجلَّى صفحاتُ الذكرى، لتعود بك إلى الحياة مع والدك.
ذكرياتي مع والدي، سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيّل –رحمه الله-، هي مَعانٍ تسمُو فوق قِممِ الجبال، تحدث عنها مَن عرفوه من أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ وغيرهم؛ لكنْ اليوم.. اسمحوا لي بالحديث عن والدي –رحمه الله-.

عندما أستحضِرُ ذكرياتِ والدي –رحمه الله – تَعْبَقُ ذاكرتي بطِيبِ سجاياه وشمائله وأخلاقه، فيتمثَّل أمام عينيَّ –أولَ ما يتمثَّل- وسطيَّتُه في الدِّين، فلم يكن متشدِّدًا ولا متعصِّبًا، بل كان سمحًا ليِّنًا، وبتلك الوسطية كان يوصينا دائمًا..

سماحة الشيخ محمد السـبيّل – رحمه الله – و ابنه يوسف ، أثناء أحد الرحلات الدعوية الخارجية

أستعيد ذكرياتي معه –رحمه الله- فيتراءى لي ذلك التواضع، وأستشعر اللطف والخير الذي لمسناه في أقواله وأفعاله، فقد كان -رحمه الله- رجلًا استثنائيًا، يؤهِّلنا للحياة بكثير من القيم الأخلاقية، من خلال توجيهاته المباشرة، أو عَبْرَ تمثُّلنا به كقدوة..
علمنا أن نتجنب السلبية، ومجازفات التعميم، والاعتدال والرحمة بالناس وحُب الخير لهم، في كافة وجهات واتجاهات الحياة، وأرشدنا إلى أن معاملة المسيء تكون بُحسن الخلق، وأن سلامة الصدر وحسن الظن، والتغاضي والتغافل عن الهفوات والزلَّات، منهجُ السعداء؛ وكان كثيرًا ما يُردد –رحمه الله- القول المأثور:(تسعة أعشار العقل في التغافل).

عندما كُنَّا صغارًا وكان جدول أعماله مزدحمًا بالمهامِّ الوظيفية والأعمال الدعوية، مع كل ذلك الانشغال كان مُنصِتًا جيدًا لجميع أحاديثنا وقضايانا الصغيرة، لا يُظهر مَللًا، ولا يستخِفُّ بفكرة، يُصحح لنا القول بلطف، وكان عَفَّ اللسان، يربِّتُ على أحدنا إن ارتبك ليتابع تقدُّمَهُ، يستخدم بحكمته البالغة –رحمه الله- مبدأ الإحلال دون الإخلال لألعاب نلعبها أو كُتب نقرؤها، وأحيانًا يُحاورنا ليلِجَ إلى قناعاتنا ويؤثِّر فيها دون فرض رأي، ليحفظ لنا مهارة اتخاذ القرار، وكبِرنا وكبر معنا ذلك الرفق بنا وبأبنائنا، ومع كل ذلك الرفق كان عادلًا حازمًا فيما حقُّه الحزم، ميزانُ الأمور لديه الشرعُ.

 

سماحة الشيخ محمد السـبيّل – رحمه الله – وابنه يوسف ، في إحدى الرحلات الدعوية ، في لوس أنجلوس بأمريكا

كان مجلسه فائدة ونزهة لنا جميعًا؛ وهو ملتقى علمي، يلتقي فيه سماحة الوالد –رحمه الله – بالجميع، يلقيهم ببشاشةٍ ورحابةِ صدر وحفاوة، حديثُه بمودَّة بعيدًا عن التكلُّف، تُقدَّم في مجلس سماحته –رحمه الله- الدروسُ والفوائد، بأفق ممتدٍّ، وبُعْدِ نظر عميق؛ فتتكون لدينا المعارف وتتنامى الخبرات..
كان -رحمه الله- بصيرًا بأعراف الناس وعاداتهم، محبًا للناس، محبوبًا لديهم.

رحم الله أبي .. رحل، لكنه باقٍ في قلوبنا، أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته، ويسكنه فسيح جناته، ويجزيه عنا خير الجزاء، اللهم أنزله منزلًا مباركًا، وأنت خير المُنزلين، وأنزله ربي منازلَ الشهداء والصِّدِّيقين، وحسُنَ أولئك رفيقًا، واجمعنا –يا رب- وإياه في جنات النعيم، ووالدتي وجميع موتى المسلمين.

سماحته و ابنه يوسف، في إحدى الرحلات الدعوية، في دولة الإمارات العربية المتحدة

 

‏سماحة الشيخ محمد السـبيّل‬⁩ -رحمه الله – وهو متجهاً لإمامة صلاة العشاء

——————————
YMS4444@GMAIL.COM

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button