“استلاب الوعي” هو القدرة الخارقة في السيطرة على العقل الجمعي للمجتمع، وإعادة تشكيله ليصبح كالآلة يُكرِّر ما يُضَخ داخله من مُدخلات عقيمة، ويؤمن بها بكل جوارحه مما تدفعه إلى الخلف وفقًا لأهواء صانعيها، وقد أطلق كارل ماركس في نظريته الماركسية مسمى (الإجماع الزائف) “على المعتقدات الامتثالية المُضلِّلة للجماعات الخاضعة والمُستغلَّة؛ لتؤمن بضرورة امتثالها للجهات التي تقوم باستغلالها فكريًّا”
فما أسباب استسلام وخنوع مجتمع عقلي كامل والسماح باستلاب وعيه دون أدنى مقاومة!؟
أهو التوجس الجمعي من الرفض أمام قوانين وتقاليد المجتمع الصارمة؟ أم هي الثقة العمياء والمقدّسة بقوى لها تأثيرها الحتمي على المجتمع فتُصبِح أفكارها كالوحي المُنزّل الغير قابل للتأويل!
أم الرضوخ التام والاستسلام للواقع خوفًا من الاختلاف عن المعتقدات المجتمعية الموروثة!
هناك جوانب كثيرة مؤثرة في حياة المجتمعات الإنسانية كافة بمختلف ألوانها وأجناسها وأزمانها لها تأثيرات مباشرة في فرض اعتقاداتها وأفكارها؛ وأقواها الجانب الروحي والديني لدى الإنسان، فذلك الجانب ليس بحاجة إلى استخدام القوة لفرض أفكاره؛ حيث إنها تنساب إلى داخل الأرواح بقدسية مطلقة، ومن المؤسف استغلال توجهات فكرية أو جماعات دينية -في كافة الأزمنة والأديان- لهذا المنفذ الروحي للتوغل إلى العقول البشرية وتجميدها وفقًا لأهوائهم الذاتية، وتحقيقًا لأفكارهم الملوثة التي تحقق لهم مقاصد ومكاسب دنيوية،
وهناك مؤثرات أخرى قد تُستخدم لاستلاب الوعي الجمعي منها: (سياسية، ثقافية، اعلامية، فنية) لها تأثيرها بالدرجة الثانية للتعمّق في العقول وإحكام وثاقها وتقيّيدها وفقًا لرغباتها، والنتيجة المتوقعة مجتمع كامل من عقل تكويني واحد ينادي بقدسية تلك الأفكار سواء أكانت صحيحة أم خاطئة،
وبذلك تتشكّل “أيديولوجية المجتمع” من قِبل من يملكون التأثير العميق لتعميم افكارهم الوهمية، مما يدفع الناس داخل الكهف المُظلم إلى تقبّل الواقع المرير وتصديق رؤية الظِلال القاتمة على جدرانه وكأنها أمر حتمي وطبيعي ومألوف؛ وبعد خنوعهم التام لها تنتقل تلك الأفكار من خلال التنشئة الاجتماعية إلى الأجيال التالية؛ حتى تصبح جزءًا من معتقداتهم المقدّسة وركيزة أساسية للتماسك البنائي الاجتماعي للمجتمع.
وكأن العقول حينها قد اُخضِعت لتجربة “التنويم المغناطيسي” من قِبَل قوة خارجية لفترة زمنية، ثم استيقظت فجأة فأدركت الوهم الكبير الذي عاصرته وصدّقته، وتبدأ حينها بنفض غبار التلوث العقلي الذي أصابها ومحاولة إعادة بناءه وتنويره، فكل مجتمع انساني تم سلبه فكريًّا سيفيقُ يومًا ما من سباته العميق، وينتقل إلى مرحلة “صدمة الإفاقة” وسيجد أمامه فجوة عميقة تفصل بين أوهامه التي عاشها والحقيقة التي سيعيشها، ولابد أن يبذل مجهودًا كبيرًا لمحاولة التكيّف مع متغيرات الحياة الجديدة وفلترة عقله من التلوث الفكري السابق وإبداله بمفاهيم الحياة الطبيعية.
ولكن ماذا ما بعد صدمة الإفاقة؟؟
هناك من يتخطّاها بقفزة كبيرة نحو التحرر والانفتاح، وبطريقة خاطئة في محاولة بائسة منه لتعويض سنوات عمره المسلوبة وهو بذلك يهيِّج جِراحه أكثر من محاولة علاجها؛ وهناك من لا يزال قابعًا في سجن عقله؛ مقيدًا بأغلال الجمود الفكري؛ فيجد نفسه في غُربة فكرية وعزلة مجتمعية وصعوبة في التكيف مع متغيرات العصر الحديث والاقتناع بها؛ والفئة المُعتدِلة من ضحايا استلاب الوعي هم مِمن استطاعوا بناء جسر مَرِن يربط بين المرحلتين المتناقضتين جدًّا وإيجاد لنوع من التوزان، والتماسك في حياتهم دون أي اختلال فكري أو ثقافي أو اجتماعي.
والآن وفي ظل هذا الانفتاح الثقافي والمعرفي المُنتشِر بقوة هائلة؛ والشهرة المُصّطنعة لصنّاع الفشل في مجتمعاتنا مِمن اعتلوا هرم القدوة “الفارغة” بمحتوى مُمزَّق لا يكاد يواري سوءاتهم،
أما يزال المجتمع اليوم يعيش تحت وطأة استلاب الوعي الجمعي؟؟؟؟
1
مقال نخبوي عظيم ????