د. حسن عون العرياني

شجرة اللوز

في عام عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية؛ وبالتحديد في عيد الأضحى أحضر أبي لنا الأضحية، ولا أذكر بالتحديد هل هي عن طريق الشراء من سوق الماشية (الثلاثاء) أم من ماشيتنا؛ حيث كان لدينا عدد قليل لا يتجاوز العشرين رأسًا، كما هي عادة أهل القرية بضرورة تربية العدد القليل منها؛ لتكفي احتياج المنزل.
وعلى كل حال جهّز أبي الأضحية وقال نذبحها هنا تحت شجرة لوز في حديقة صغيرة خلف منزلنا بذرها والدي؛ لتكبر ونجني ثمارها وحتى لا نتطلع لشجرة لوز الجيران، ونأخذ منها بغير حق، وتولت أمي سقايتها والعناية بها حتى كبرت وبدأت تثمر.
تم ذبح الأضحية وتعليقها بشجرة اللوز وسلخ الجلد-وقد كنت دائمًا ما استمتعت بمشاهدته ويشرح لي طريقة مسك السكين وسلخ الجلد ومن ثم تفصيل الذبيحة-، في هذا الجو من السعادة التفت أبي إلى أمي وقال ياشريفة -وهي شريفة في قولها وفعلها شريفة في قلبها وأمومتها وابتسامتها- : قد يكون هذا آخر عيد يجمعنا لم نعلق على الكلمة ولكنها وقعت كالسيف القاطع على مسامعنا، تسألنا في صمت ماذا يقصد بهذا الكلام هل يقصد أننا لن نجتمع في هذا المنزل؟ حيث بدأنا في بناء منزل جديد يجمعنا، أكثر مساحة واستقلالية؛ أم أننا كبرنا وبدأنا في البحث عن عمل خارج قريتنا الصغيرة التي لايوجد بها إلى الآن حتى حضانة أطفال. ومهما كان نوع السؤال فلم نجد جوابًا..
قطّعنا اللحم وخرج والدي لزيارة بعض الأقارب وشيخ القبيلة رحمه الله، وهو برنامجه الذي لم يقطعه طيلة حياته.
مرت الأيام وبدأ يشكو والدي من ألم في لسانه، وبدأ المرض يظهر عليه ويزداد، فقررنا إجراء الفحوصات في مستشفيات جدة ومن مستشفى إلى آخر، والكل يجزم بأنه لا يوجد أي خطورة من المرض، مجرد جرح في اللسان نتيجة لاحتكاكه بالأسنان، ومنهم من يتعامل معه بالكي بالليزر، ومنهم من يأخذ من الأضراس، ومن أعجب الوصفات الطبية من قال له: لا تشرب الشاي. ومن حبه لشرب الشاي كان يخففه جدًّا حتى ترى لونه أصفر-ولا أعلم إلى الآن هل أبي زار طبيبًا أم عامل النظافة انتحل صفة الطبيب-؛ ولأن والدي مصاب بالسكر، وقد كان هناك تجارب مؤلمة لهذا المرض في العائلة ظننت أنه أصيب بسواس سيؤدي به إلى خسارة كثير من المال بلافائدة. ولكن للأسف ما لبثنا إلاّ أيامًا قليلة، ليصلنا الخبر بأنه مصاب بالسرطان ثم حوّل بالإخلاء الطبي لتخصصي الرياض من أجل استئصال الورم.
بعد شهرين عاد أبي من رحلته العلاجية ولم يتم استئصال الورم بل زادت الصدمة؛ حيث أفاد الأطباء أنه انتشر في الرأس والغدد ولن يعيش إلا لأشهر معدودة، والأمر قد يقصر أو يطول هذا في علم الله أما النتائج المخبرية فهي كما ذكرنا.
وكالعادة كان أبي صابرًا مبتسمًا؛ ولكن أصبح لا يستطيع الكلام إلاّ بالإشارة فقط. أمّا نحن فلم نستوعب هذه الصدمة، وفي الثاني من رمضان لعام واحد وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة فارقت الروح الجسد.
مات أبي وخلف لنا أخوة وأخوات أيتامًا وأمًّا مكلومة عقارات لم يكتمل بناؤها وديون نتيجة لذلك فما العمل؟
الكل بدأ يطلب ماله وحقه بل إنّ أقرب أصدقائه اتصل ليطلب ماله وأبي على فراش الموت وهو لا يتحاوز ألفين ريال. ولكن هؤلاء هم أصدقاء المصالح.
هموم بالليل وحزن بالنهار الكل في القرية ينتظر ويترقب هل سننجح في تجاوز المرحلة أم سنسقط وتتفرق الأسرة ليجدوا لهم حكاية يحتسون عليها كأسًّا من القهوة في مجالس الغيبة ولمز الناس، الكل ينتظر ماذا سيحدث ليجعل منّا مضربًا للمثل لأبنائه -إذا مت فلا تكونوا مثل أولاد فلان-.
نعود للحديث عن الأسرة مر شهر رمضان ذلك العام والكل صامت داخل المنزل؛ وكأنك تدخل إلى منزل مهجور من مئات السنين لا حياة فيه وكيف يحيى والروح فارقت الجسد.
اتفق الكبار أن يبقوا كبارًا جمعوا كلمتهم ومالديهم من مال، ووضعت الخطة والهدف تماسك الأسرة وعدم إشعارهم بموت أبيهم.
مر عيد وآخر والأمر كما هو مخطط له، انتهى البناء وانتقلت الأسرة للمنزل الجديد الصغار فرحون بالمنزل والكبار، وأمهم يفرحون لفرحهم، ولكنهم يتساءلون من يسقي شجرة اللوز؟
وبدأت حكايات أخرى في المنزل الجديد ذو المساحة الكبيرة والشقق المتعددة والحجرات الواسعة، وتفرق الجميع في المدن بحسب طبيعة العمل وظروف الحياة.
عشرون عامًا لم نشعر فيها بقيمة ماكان يخطط له أبي -رحمه الله- ببناء منزل كبير يجمع الأسرة إلاّ بعد جائحة كورونا، هربنا لفكرة والدي، واجتمعنا في منزل واحد بكل حب وتآلف مما خفف علينا مصيبة الحجر وجائحة كورونا، ولكن بدون شجرة اللوز فقد ذبلت أوراقها وتساقطت أغصانها فلم تجد من يسقيها، فرحم الله آباءنا وأمهاتنا وكل من له حق علينا.
همزة وصل:
تأمل قوله تعالى:
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ) قومه هنا بمعنى قرابته فموسى وقارون أبناء عم كما ورد في التفسير (فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد في الكبر وقيل تجاوز الحد بزياد شبر في ثوبه. والزيادة في الثوب وجره من الكبر، كما ورد في الحديث. ومع هذا لم يقطع الله رزقه بل زاده حتى أصبح كنوزًا ، فلا تتكبر وتفرح فإنه لن يدخل الجنة من كان في قلبة مثقال حبة من خردل من كبر (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).

Related Articles

One Comment

  1. رحم الله من رباكم وغفر الله لوالدتكم.. ونعم العائلة والاخوة شهادتي بكم مجروحة بحكم الصداقة والزمالة رغم اننا لسنا من نفس القبيلة ولكن.. هكذا عرفتكم من اكبركم إلى اصغركم اصحاب دين وهمة عالية… ولن انسى فضل ( اختكم) الكبيرة ع زوحتي في بداية زواجنا ومعروفها لها… جمعني الله واياكم في جنات النعيم اخي حسن… محبك ابو عزام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button