حالة الفوضى الجزئية التي تعيشها الولايات المتحدة في تقديري ظرف طبيعي يمكن ظهوره في أي بلد أصغر بكثير من أمريكا وأقل قوةً وثراءً ، ويمكن له أن يؤدي إلى تغيير النظام كما حصل في بعض دول الخريف العربي ، كما يمكن أن يتغلب النظام عليه كما حصل في إيران ، لذلك فالغالب على دولة بحجم أمريكا اقتصاديا وعسكرياً أنها ستتغلب على مثل هذا الحدث وربما تستفيد منه في تعديل بعض أنظمتها الأمنية والقضائية ، هذا تقديري والله عز وجل غالب على أمره.
الذي عجبتُ منه وكان هو ما دفعني لكتابة هذا المقال: تَبَاشُر الكثيرين بهذه الأحداث وسرورهم بها وتوقعهم أن الولايات المتحدة ستسقط على أثرها ، وأن إسرائيل سوف تنتهي بعد هذا السقوط وأن عز المسلمين آت قريباً ولم يعد يفصل بيننا وبينه إلا نهاية هذه الاحتجاجات ، وكتب أحد الإخوة في ذلك مقالاً طويلاً يفيض استشرافاً وأحلاما !
يقولون هذا وكأن وجود الولايات المتحدة هو الذي حال بين المسلمين وبين العز والمجد والتمكين ،ولذلك يرون أن بزوالها ستتحقق البشائر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
التاريخ يقول غير ذلك ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم قد سلط الله بعضها على بعض منذ زمن قديم وأرض أمريكا في العالم المجهول ، ثم سلط الله عليها أعداءها الذين لم يتسلطوا ضربة لازب ؛ بل كان لتسلطهم أسباب عدة لا سبباً واحداً ، منها انصراف المسلمين
عن دينهم الحق وتوحيده الخالص ، وضعفهم الاجتماعي والعلمي والاقتصادي والسياسي ، وفُرقَتُهم وشيوع الأحقاد والتحاسد والتكالب على سفاسف الأمور بينهم ، كل تلك كانت من أسباب ضعفهم .
فلو فرضنا أن الولايات المتحدة كما يتباشر البعض سقطت ، فهل المسلمون اليوم يشكلون البديل لوجودها ؟
هل أعد المسلمون أنفسهم لمثل هذا اليوم لو حدث ؟
وهل أزالوا عنهم تلك الأسباب القديمة التي أدت فيما مضى إلى ضعفهم واحتلال بريطانيا وفرنسا لمعظم بلدانهم ؟
الجواب في كل ذلك :لا ، فأسباب ضعف المسلمين قبل ثلاثمائة عام لا تزال باقية حتى يومنا هذا ؛بل إن منها ما الأمر فيه أشنع مما كان قبل ثلاثة قرون كما أن منها بطبيعة الحال ما هو أفضل مما كان عليه .
لذلك على المسلمين بدل التباشر في أمر لا طائل من وراء التباشر به ، وربما كان مضراً بهم وبدولهم سياسياً ، عليهم العودة إلى أنفسهم والتغلب على أسباب الضعف المستشرية فيهم ، كلٌ فيما يخصه ، فالمواطن العادي عليه العودة إلى تقوى الله تعالى في نفسه وفي أهله وماله وأولاده ومن يليه،
ثم الانكفاف عن الفتن التي كانت المسارعة فيها أحد أسباب ما حل قديما ويحل حديثاً في بلاد المسلمين من تضعضع ؛ والمسؤول عليه تقوى الله تعالى فيما أنيط به من مسؤوليات والرعاية والأمانة في القول والعمل .
يؤسفني ويؤسف كل مؤمن أن الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة لو سقطت في هذا الظرف لن يملأه العرب ولا المسلمون منفردين أو مجتمعين ، وإنما سيملؤه أقوياء آخرون وهم روسيا والصين والاتحاد الأوروبي ، أما المسلمون فليسوا هناك .
وهل هؤلاء البدلاء سيكونون أرفق بالمسلمين وأحب إليهم ؟
الجواب يعرفه الجميع من معرفتهم بتاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي وكل من روسيا والصين وأوروبا.
الولايات المتحدة رغم سوئها لازالت تُوجِد شيئا من التدافع الذي جعله الله تعالى سنة يحمي بها عباده المؤمنين ، كما فال تعالى ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾ [البقرة: ٢٥١]
وقال تعالى : ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذكَرُ فيهَا اسمُ اللَّهِ كَثيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ [الحج: ٤٠]
والكيان الصهيوني إذا لم تدعمه الولايات المتحدة فقد تأخذ روسيا تلك المهمة ، ولازال معظم مال العالم بيد حفنة من اليهود الصهاينة يحركون بها الكثيرين من عبدة المال من مؤسسات وقادة كي يسخرونهم لخدمة هذه الدويلة النشاز.
هذه الأزمة التي تعيشها أمريكا حسبها منا وحسبنا منها أن نتعلم أو قل :نتذكر واجبنا الحقيقي الذي ننتظره اليوم وينتظرنا وهو العودة إلى ديننا وقوتنا ،وليس انتظار أن تأتي قوتنا من سقوط قَدَرِي للآخرين لم يكن منا تجاهه حتى مجرد الاستعداد لمواجهة احتمالية قدومه.
أعود إلى الأحداث في الولايات المتحدة ؛ فالبيض في أمريكا لهم عنصريتهم التي كان العالم بأسره ينتقدهم جراءها ضد السود والملونين ؛ لكن هذا الحدث أيضا قد بين لنا أن السود أيضاً لديهم عنصريتهم التي اتضحت من خلال استغلالهم الأزمة في إثارة الفوضى والإخلال بالأمن ، وهذا الأمر ربما يجعلهم يخسرون كثيراً من مكاسبهم التي حصلوا عليها داخل الولايات المتحدة منذ عام ١٨٦١ ومن الأمور التي أخشاها أن يقوم هؤلاء السود الأمريكيين باسم نصرة المظلوم ومحاربة العنصرية بجر المسلمين الأمريكيين أو المسلمين في أمريكا للمشاركة في هذا الحدث ؛إن حصل هذا وأسأل الله تعالى أن لا يحصل فإن التبعات التي ستنال السود بعد انقضاء الأزمة ستنال المسلمين سوداً وبيضا أيضاً .
أزعجني جداً منظر الشابة المصرية الأصل التي يقال إنها اندفعت نحو شرطي بسكينها ثم أرداها هو وزملاؤه قتيلة ؛ لكن لماذا أزعجني ؟
الجواب : لأني لا أستبعد أن يكون “لأمرٍ ما قطع قصير أنفه” أي أن هذا المشهد إنما تم نشره ليجر المسلمين للدخول في هذه المعمعة ؛لا أستبعد ذلك ولا أؤكده ، أما الذي أؤكده فهو أن على المسلمين أن يتئدوا ، ويبتعدوا كثيرا عن أن يكونوا وقوداً للفتن في تلك البلاد ؛ خاصة وأن نسبة كبيرة من مسلمي الولايات المتحدة من السود مما سيجعل تبعات مواقفهم ذات حَدَّين.
إن العمل الخيري والنشاط الدعوى والحركة المالية للمسلمين في الولايات المتحدة قد تم ضربها بقسوة بعد أحداث ١١/ ٩ / ٢٠٠١ وقد استطاع المسلمون قبل عشر سنوات التقاط أنفاسهم وإعادة الكثير مما خسروه إثر تلك الأحداث ، ولا تزال المساجد هناك تستقبل يوميا المزيد من المسلمين الجدد ، ولا زال مرض العداء للإسلام في أمريكا [الإسلام فوبيا] يتقلص يوماً بعد يوم ، وقد بذلت السعودية عبر سفارتها ومؤتمراتها التي أقامتها رابطة العالم الإسلامي جهوداً مباركةً كان لها أثرها في تخفيف هذه الروح العدوانية لدى الأمريكيين ضد المسلمين، لكن عودة هذه الروح الشرِّيرة لاتزال ممكنةً جِداً عند بث مقطع أو مقطعين من أمثال مقطع تلك الفتاة وهي تطرد الضابط الأمريكي بسكينها ، يتم من خلالهما إذكاء نار البغضاء لتعود جذعة في صدور المواطنين الأمريكان .
في بداية حكم الرئيس ترمب حاول الديمقراطيون والإعلام المناوئ للجمهوريين استغلال عاطفة المسلمين للمشاركة في التظاهرات والاحتجاجات ضد ترمب ، وللأسف نجحوا وانساقت بعض المنظمات الممثلة للمسلمين في هذا السياق دون أي مكاسب حتى الآن ، ولا أعلم إلى متى يظل المسلمون سريعي الخُطا نحو ما يضرهم بمحرد أن تستثار عواطفهم دون أن يحسبوا بهدوء حجم الأرباح والخسائر قبل أي تحرك لهم .